نصرالله – الجريري : الثقة المستحيلة

في حديثه التلفزيوني، الثلاثاء 12 تموز، اشترط الرئيس
سعد الحريري للاجتماع، من الآن فصاعداً، بالأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله إحضار شهود على المقابلة كي لا يُقوّل ما لم يقله، وتفادياً لأي تلاعب بما يُتفق عليه. ألقى شكوكاً على صدقية نصر الله تجعله يحتاج إلى حاضر ثالث
كل الاجتماعات التي عقدها الرئيس سعد الحريري مع الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله لم تخلُ من أكثر من شاهد. في الاجتماعات الأخيرة انضم إليهما مستشار الحريري وابن عمته نادر الحريري، بعدما كان يحضرها، على غرار اجتماعات نصر الله مع الرئيس رفيق الحريري، المعاون السياسي للأمين العام الحاج حسين الخليل والزميل مصطفى ناصر.
في اللقاء الأخير الذي ضم الحريري والخليل، في 19 تشرين الأول 2010، أخذ رئيس الحكومة على محدّثه أنه أخلّ بما دار في آخر اجتماع عقده الحريري مع نصر الله في 7 حزيران 2010. عندما تعارضت وجهتا النظر في تذكر ما دار في ذلك الاجتماع، وتشبّث كل منهما برأي مخالف للآخر، طلب الخليل الاستعانة بنادر الحريري الشاهد على ذلك الاجتماع، وكان قد دوّن ـــــ كما الاجتماعات التي سبقته ـــــ محضره. استدعي نادر الحريري إلى مكتب ابن خاله، وطلب منه محضر اجتماع 7 حزيران، فتبيّنت صحة ما قاله الخليل.
ردّ الحريري: كان على السيّد أن يفهم عليّ ما قلته.
أجاب الخليل: ما نحن في صدده هو ما قلته أنتَ وليس ما كان على السيّد أن يفهمه عليك.
هكذا حضر الشهود دائماً. إلا أن الثقة لم تحضر باستمرار على النحو المطلوب. في حديثه التلفزيوني ـــــ وقد قطع جسور الحوار مع كل الأفرقاء خارج تحالفه السياسي في قوى 14 آذار ـــــ لم يفصح الحريري تماماً عن الدوافع التي أفضت إلى إسقاط حكومته، ومن ثمّ إطاحته من رئاسة الحكومة. أصرّ على وجهة نظره من التسوية السعودية ـــــ السورية، وأنكر ما تعهّده في مسودتها، وهو تخليه عن المحكمة الدولية لقاء البقاء في السلطة ورئاسة الحكومة، على نحو ما كشفه أكثر من مرة، بدءاً من 21 كانون الثاني 2011، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط.
أظهر جنبلاط إلى العلن ورقة التسوية، وقال إنه اطّلع عليها من رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي العقيد وسام الحسن في 11 كانون الثاني، ودقق مضمونها مع نصر الله في لقائهما في 13 كانون الثاني قبل ذهابه إلى دمشق لمقابلة الرئيس السوري بشار الأسد في 15 كانون الثاني. بين هذين اليومين، كان قد استقبل في منزله في كليمنصو الحريري، في 14 كانون الثاني، وأخطره أنه سيجتمع في الغداة بالأسد، وحمل من الحريري موافقة نهائية على مسودة التسوية في صيغتها النهائية.
منذ أن التقى نصر الله والحريري الابن لم تكن الثقة مرة ثالثهما. وعلى وفرة الجهود التي بذلاها واللقاءات القليلة التي عقداها، والتي لم تتعدَّ بعد أحداث 7 أيار 2008 حتى إطاحة الحريري ثلاثة اجتماعات، إلا أن كلاً منهما كان يحدّث الآخر بلغة مختلفة، غير متجانسة وطبيعة البحث عن تعاون وتفاهم واتفاق. كل منهما مسكون بهاجس يقلق الآخر ويهدّده. لذا صحّ قول الرئيس السابق للحكومة في الحديث التلفزيوني إن الأسد ونصر الله أسقطاه من السلطة.
الواقع أنهما لم يكتفيا بإسقاط حكومته بل بإخراجه ـــــ حتى إشعار آخر وإلى أن ينقلب توازن القوى رأساً على عقب ـــــ من معادلة الحكم والسلطة.
عندما التقيا لأول مرة بعد 20 نيسان 2005، يوم اتفقت عائلة الرئيس الراحل على انتقال زعامتها السياسية إلى سعد، قيل للأمين العام لحزب الله عندما فوتح بالاجتماع به، لاستكمال حلقات الحوار التي كانت قد بدأت قبل أشهر مع الحريري الأب، إن الابن سرّ أبيه وسيعتمد سيرته ومسيرته. قيل أيضاً إن ما تعهّده الأب يحترم الابن تطبيقه، وإن من الضروري تثبيت الثقة بينهما.
لم يمانع نصر الله، إلا أنه لم يكن قد نسي تماماً حادثة خبرها مع الحريري الابن قبل أشهر قليلة، أدخلت الريبة إلى قلبه.
في اليوم الثالث لاغتيال الحريري الأب، 16 شباط 2005، ذهب نصر الله الثانية عشرة منتصف الليل إلى قريطم للتعزية شخصياً، رغم الحذر الذي كان يتخذه تحوطاً في تنقلاته. كانت العائلة كلها حاضرة. السيدة نازك والابنان الأبرز في الواجهة بهاء وسعد.
قال للعائلة: ماذا يسعني أن أفعل من أجل المساعدة على كشف حقيقة قتلة الرئيس الراحل؟ أضاف: كان صديقي وشريكي وشهيدي. أنا أعتبره شهيداً لأنه مات مظلوماً.
تحدّث نصر الله عن الثقة العميقة التي نشأت بينهما في اجتماعاتهما في الأشهر الأخيرة التي سبقت الاغتيال وتناولت حماية المقاومة وسلاحها وتنظيم علاقتها بالسلطة اللبنانية، في نطاق توأمة شرعية المقاومة مع شرعية السلطة بلا تعارض. كان الحريري الأب ونصر الله الضامنين الفعليين لها.
قال مجدّداً: ماذا تريدون مني أن أساعد؟ أنا جاهز لوضع إمكانات الحزب في تصرفكم، في التحقيق وجمع المعلومات.
كان الجواب المشترك: تحقيق قضائي عربي في الاغتيال.
ضرب نصر الله على صدره وقال إنه مستعد. قال للعائلة إنه سيذهب إلى سوريا للبحث مع الأسد في هذا الأمر في أقرب وقت ممكن، بغية الحصول على دعم سوري لإطلاق تحقيق قضائي عربي في جريمة الاغتيال.
تطبيقاً لاهتمامه قصد دمشق صباح اليوم التالي، وناقش الرئيس السوري في الموضوع. لدى عودته بعد الظهر، استدعى قريباً منه وأعطاه ورقة معنونة «الأمانة العامة لحزب الله» وأملى عليه ترحيب الأسد بتحقيق قضائي عربي في اغتيال الحريري الأب، لإبلاغه إلى العائلة، وقرنه الرئيس السوري بالإعراب عن الاستعداد لتقديم أي مساعدة يُدعى إليها توصّلاً إلى تأليف محكمة عربية في الاغتيال.
اليوم نفسه، ليلاً، ذهب الموفد إلى الرياض واجتمع بعائلة الحريري في منزل الرئيس الراحل، وكانت تتقبّل التعازي هناك، وسلّمها رسالة نصر الله ودعم الأسد التحقيق القضائي العربي. حضر هذا اللقاء، بعد العشاء، سعد وبهاء الحريري. لم تكن قد آلت زعامة البيت ووراثة الأب إلى سعد، فكان وشقيقه المعنيين بمواكبة مأساة اغتيال والدهما.
أجابا موفد نصر الله: لا. نريد تحقيقاً ومحكمة دوليين.
كانت القوى السياسية التي أضحت في الشهر التالي قوى 14 آذار قد تحلقت في قريطم حول جنبلاط، وقرّرت بعد ست ساعات على الجريمة المطالبة بتحقيق ومحكمة دوليين، بينما راحت العائلة تقول بمحكمة عربية. بدا حينذاك أن أكثر من طرف خارج تلك القوى قد دخل على خط الصراع.
كانت تلك المفاجأة الأولى لنصر الله. بعد 20 نيسان 2005 وحصر زعامة البيت بسعد، على أبواب الانتخابات النيابية المقررة الشهر التالي، وُلد التحالف الرباعي (حزب الله وحركة أمل والحزب التقدّمي الاشتراكي وتيّار المستقبل). في لقاءات جمعتهما، اتفق الرجلان على موعد إجراء الانتخابات وعلى حصولها في هذا الموعد. كان نصر الله قد اقترح تأجيلها بضعة أشهر ريثما يتسنّى لحزب الله إعداد قاعدته للمرشحين الجدد، إلا أن الحريري تمسّك بالموعد المضروب، وهو 29 أيار تحت وطأة صدقية الديموقراطية اللبنانية وإمرار الاستحقاقات الدستورية والضغوط التي شرعت واشنطن وباريس من خلال سفيريهما في بيروت في ممارستها على حلفاء سوريا.
سلّم الأمين العام للحزب بإرادة الحريري بحذر وترقب، وجسّدا تفاهمهما بالائتلاف الانتخابي في دائرتي بعبدا وعاليه على نحو يمنح قوى 14 آذار بزعامة الحريري 10 نواب من النواب الـ11 الممثلين للقضاء، وهو رقم كفيل بوضع الأكثرية النيابية عند هذا الفريق، وتمكينه من تأليف حكومة جديدة. شهد على هذا الالتزام سفير السعودية عبد العزيز خوجة الذي كان قد اطّلع من نصر الله على فحوى اتفاقه مع الحريري، وسمعه يقول إن حزب الله قرّر تسليم الغالبية النيابية إلى الحريري الابن وفقاً لمعادلة مكمّلة للثقة التي كانت قد تقدمت في علاقة الأمين العام بالحريري الأب، وأراد تعميمها على الحريري الابن: السلطة في مقابل حماية سلاح المقاومة. عزا نصر الله اطمئنانه إلى مثل هذه المجازفة إلى أنه يثق بالحريري الابن، وهو يريد أن يرى فيه ـــــ ومعه ـــــ تنفيذ الاتفاق مع أبيه الراحل: حماية سلاح المقاومة.
ما إن أصبحت الغالبية النيابية عند قوى 14 آذار حتى أبلغ الحريري الأمين العام للحزب بأن رئاسة حكومة ما بعد انتخابات 2005 ستكون بين أحد اثنين، الوزيرين بهيج طبّارة وفؤاد السنيورة.
ردّ نصر الله: لا يهمنا مَن يكون رئيساً للحكومة طالما أن الاتفاق الأساسي في حماية المقاومة بدأ مع أبيك، ويستمر معك.
بعد أسبوع، أحيط علماً بأن الخيار رسا على السنيورة: هكذا ارتأينا. قال الحريري.
إلا أن الأشهر التالية وضعت علاقة الرجلين أمام امتحان ثان. ارتفعت نبرة الأصوات المؤيدة للقرار 1559 والحملة على حزب الله، وصولاً إلى إحداث عاصفة حول التحقيق الدولي بدأت أقوى مؤشراتها مع اعتقال الضباط الأربعة بتهمة الضلوع في اغتيال الحريري الأب في 30 آب 2005. ثم انفجر الخلاف على المحكمة الدولية مع اغتيال النائب جبران تويني في 12 كانون الأول.
قالت وجهة نظر حزب الله إن نصر الله لم يتردّد في إعطاء الحريري السلطة، متجاهلاً الرئيس ميشال عون وشعبيته في المتن الجنوبي، وأولى سلاح المقاومة الأفضلية المثلى. هكذا تقاسم الرجلان توازن القوى الداخلي: السلطة عند الحريري والسلاح عند حزب الله. إلا أن الأخير لاحظ أن السلطة استخدمت ضده وضد سلاحه، فانهار كل ما كان بني بينهما. كانت قد بذلت جهود في الأشهر الأخيرة من عام 2005 لرأب الصدع من خلال وساطة سعودية عُرفت باتفاق الرياض، سرعان ما انهارت. ثلاث مرات على التوالي، أجريت مساع لإعادة بناء الثقة بين نصر الله والحريري الذي كان يعزو التباعد ـــــ وفق ما كان يبرّره للحزب ـــــ إلى الطريقة التي يمارس بها السنيورة الحكم.
على قياس كهذا سقطت معادلة س. س عام 2011، لأن التلاعب بالثقة عاد أحد أسلحة المواجهة المضمرة.
رمت هذه التسوية إلى استعادة جوهر التحالف الرباعي: السلطة في مقابل حماية سلاح المقاومة. تبعاً لذلك، انطوت بنود المبادرة السعودية ـــــ السورية على شقين، أحدهما ما يحصل عليه الحريري، والآخر ما يقدمه لقاء ذلك، وأخصّه مواجهة تداعيات القرار الاتهامي في اغتيال والده قبل صدوره من خلال إجراءات يقدم عليها الحريري تقضي بإلغاء بروتوكول التعاون مع الأمم المتحدة وسحب القضاة اللبنانيين من المحكمة ووقف تمويلها. تالياً تجريد المحكمة من شرعية لبنانية ما دام لا يسع لبنان إلغاؤها.
كانت مسودة الاتفاق في صلب ما أعلنه نصر الله بأن ما بعد صدور القرار الاتهامي هو غير ما قبله، في إشارة صريحة لم يلتقطها أركان قوى 14 آذار، ومفادها أن صدور القرار الاتهامي قبل توقيع التسوية يجعلها غير ذات جدوى ولاغية. إلا أن المطلوب مباشرة تنفيذ بنودها قبل صدوره. لم يلتقط الحريري العبارة أو لم يُرد أن يلتقطها أو حيل دونه والتقاطها.
في 14 كانون الثاني الماضي، سلّم المدعي العام في المحكمة الدولية دانيال بلمار قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين القرار الاتهامي. إذ ذاك تيقن نصر الله من أنه لا مكان للثقة بينه والحريري. للمرة الثالثة، يُقوّض تفاهماً بينهما. انتظر الحريري تسليم القرار الاتهامي كي يبدي استعداداً لوضع التسوية موضع التنفيذ، في وقت عدّه الحزب متأخراً للغاية. ما إن دخل الحريري البيت الأبيض للاجتماع بالرئيس الأميركي باراك أوباما في 12 كانون الثاني 2011 حتى بلغت اجتماعهما من بيروت أنباء إسقاط حكومته باستقالة 11 وزيراً منها، فإذا بالرجل يحاور رئيساً أميركياً وقد فقد شرعية التفاوض، وبات رئيس حكومة تصريف أعمال.
كانت الخلاصة التي توصّل إليها حزب الله أن الحريري يريد في آن معاً رئاسة الحكومة والقرار الاتهامي، من غير أن يضمن له حماية سلاح حزب الله، ولم يعن تسليم القرار الاتهامي في نظر الحزب إلا أحد وجوه استهداف سلاح المقاومة.
لكن الوجه الآخر لمرحلة ما بعد سقوط التسوية السعودية ـــــ السورية، ثم النسخة المنقّحة عنها في مبادرة وزيري الخارجية القطري والتركي في 18 كانون الثاني، أن حزب الله قرّر التكفّل بمواجهة القرار الاتهامي والمحكمة الدولية، ولا تعود ثمّة جدوى عندئذ كي يكون الحريري في الحكم، بل بات المطلوب دفعه إلى هامش السلطة.
حمل ذلك نصر الله على أن لا يتردّد في إبلاغ وزيري الوساطة القطرية ـــــ التركية بعد اجتماع طويل في مقره في 19 كانون الثاني، استمر إلى ما بعد منتصف الليل، أن قراره في المسودة الجديدة المنقحة يبلغه إليهما ظهر اليوم التالي.
الثانية بعد الظهر، 20 كانون الثاني، ذهب الحاج حسين الخليل إليهما في فندق فينيسيا وأنبأهما قرار نصر الله: لا لعودة الحريري إلى رئاسة الحكومة.

 

السابق
فلسطين تغيب وتحضر
التالي
الأزمة الاأيديولوجية للرأسمالية الغربية