ثورة بلا إسلاميين

التغيير الوزاري في مصر حدث استثنائي بكل ما للكلمة من معنى. القياس هنا هو عربي او حتى عالم ثالثي: الشارع المصري يفرض تعديلاً جذرياً على حكومة كانت حتى اشهر قليلة مضت لا تتبدل إلا بقرار من الحاكم، وبناء على مزاجه وعطفه ومدى تجاوبه مع رغبة الجمهور. هذا الشارع صار هو جهاز المراقبة والمحاسبة، وهو أداة التطوير والتحديث.
من دون حشد هائل في ميدان التحرير في وسط القاهرة، أو في غيرها من المدن المصرية الكبرى، ضغط الجيل الشاب الذي صنع ثورة 25 يناير على السلطة الانتقالية فكان له ما اراد، او معظم ما اراد. اولئك الذين نزلوا الى الشوارع في الأسبوعين الماضيين واعتصموا فيها وما زالوا، كانوا مجرد عينة بسيطة عما يمكن ان ينزل على الارض من اجل الإطاحة بحكومة عصام شرف التي ضمت عدداً كبيراً من رموز نظام حسني مبارك.
استجاب المجلس العسكري ونفذ عصام شرف المطالب الى حد كبير. فخرج من الحكومة نحو نصف أعضائها، وأدرك الباقون انهم قيد الاختبار، ويمكن ان يخسروا مناصبهم اذا ما ارتكبوا اي خطأ. والأهم من ذلك أن أكثر من ألف ضابط شرطة رفيع الرتبة إقيلوا من مناصبهم لتورطهم في قتل شهداء الثورة او في قمع جمهورها.. في واحدة من اهم وأكبر عمليات التطهير للجهاز الأمني المصري منذ قيام الجمهورية عام 1952.
وبغض النظر عن تقييم هذا التعديل الوزاري والتطهير الأمني، فإن ثورة مصر كرست سابقة مبدئية لا يمكن الرجوع عنها بعد اليوم، مهما كان شكل النظام المقبل ودرجة التزامه بالمعايير الديموقراطية، وهي ان الشارع هو المصدر الأهم للسلطة والملاذ الأخير للشرعية..كما هي الحال في مختلف الديموقراطيات الغربية التي تحظى بحكومات وبرلمانات تتمتع بالمصداقية، لكنها تخوض اختبارات دائمة لمزاج الرأي العام خارج صناديق الاقتراع.
لا يثير هذا التحول الجوهري في مصر الكثير من الانتباه، بل لعله يثير الكثير من الشك، لأنه يتنافى مع جميع المبادئ الموروثة للثقافة السياسية العربية.. ولأنه ايضاً يتعارض مع مختلف القراءات للثورة المصرية، التي لا يزال هناك من يظن انها خطوة الى الوراء ستؤدي الى خراب مصر، وستدفع المصريين الى الحنين إلى عهد مبارك، او من لا يزال يعتقد انها ثورة اسلامية ستقود الى حكم اسلامي يطبق الشريعة ويعود بمصر الى القرون الوسطى.
ما جرى في مصر في الأسبوعين الماضيين، أعاد الكثير من الامور الى نصابها الطبيعي، فقد خرج الإسلاميون من الشارع، ولم يشاركوا في حملة التعديل الحكومي او التطهير الامني.. كما انهم قدموا الدليل الأخير على انهم لم يعودوا القوة السياسية الأشد تنظيماً ونفوذاً في مصر. فقد تفككت حركاتهم التقليدية الى احزاب صغيرة، ولن تكون قادرة على نيل حصة وازنة في البرلمان المقبل.
الشارع المصري يحكم، وينهي دور الإسلاميين الذين لم يفجروا الثورة ولم يحققوا منجزاتها لا في مصر او تونس او ليبيا او اليمن او حتى سوريا.
السابق
مقتل سائق شاحنة في حريق على مفرق جديتا – ضهر البيدر
التالي
فلسطين تغيب وتحضر