الرئيس سليمان الذي جهد في "تدبيج" مرافعة عن "حلته الجديدة" في خطاب عمشيت لم يوح بأن الـ "نصف" المقبل من عهده سيتيح للرئاسة لعب الدور الذي اطلت به على اللبنانيين في خطاب القسَم، بل هي ستكون "رهينة" موازين القوى التي دفعتها الى التراجع عما دأب التأكيد عليه قبل ان يذعن لمنطق الغلبة ويبالغ في تدوير الزوايا وتسطيحها. ويشبه الرئيس ميقاتي الرئيس سليمان في هذا السلوك "الانصياعي" لموازين القوى، التي بدت في لحظة اسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري لمصلحة سورية و"حزب الله"، فاختار الرجلان الانحناء امام العاصفة المرشحة لأن تبدل اتجاهاتها ولو بعد حين ما يجعلهما في مكان اشبه بـ "الوقت المستقطع" قبل ان يستعيد سليمان دوره كـ "حكم" ويستعيد ميقاتي "وسطيته" المفقودة.
ولا يحتاج المرء للتذكير بأن سليمان كان اول من تم "الغدر" به يوم اسقاط حكومة الحريري عندما جرى استخدام "وزيره" من خلف ظهره، ثم اضطر لتأجيل الاستشارات "الملزمة" لتسمية الرئيس المكلف تشكيل الحكومة افساحاً امام "تبديل" الاكثرية، ومن ثم لم يعد امامه من خيار سوى "التوقيع" على حكومة لم تكن بالمواصفات التي لطالما نادى بها وبـ "نصف حصة" من الوزراء الخمسة التي كانت تسوية الدوحة اقرتها له لضمان موقعه "الوازن" في السلطة التنفيذية. ثمة من يعتقد ان الرئيس سليمان لم يكن امامه "أفضل مما كان"، وهو لا يعبّر في موقعه عن "حال شخصية" بقدر ما هو "حصيلة" لتوازنات لا يمكن مقاومتها، وتالياً فانه اضطر الى السير في ركاب اللحظة المحلية ـ الاقليمية كأمر واقع، بعدما كان جهد في لعب دور "صمام الامان" داخل مجلس الوزراء في الحكومتين السابقتين وعلى طاولة الحوار وفي "الممانعة" التي حاول الصمود خلفها لكن ما باليد حيلة، وربما يراهن كسواه على متغيرات تعيد الروح الى ما بقي من عهده.
والأكثر اثارة في خطاب سليمان العمشيتي كان مروره السريع على "مسار العدالة المستقل" والاعلان عن عزمه التشاور مع قادة البلادة لمعاودة الحوار من دون اي اشارات حاسمة الى شكله او قضاياه، في الوقت الذي يدرك في قرارة نفسه ان مكونات الحكومة الحالية كانت اطلقت رصاصة الرحمة على طاولة الحوار حين رفعت متراس "شهود الزور" في وجه كل شيء، الحكومة والطاولة والتسويات الاقليمية وسوى ذلك. لن تحظى دعوة الرئيس سليمان الى الحوار بعد الاطاحة بالحكومة السابق ومعها اتفاق الدوحة والـ "سين ـ سين" وأخواتها بالترحيب من تحالف "14 آذار" المعارض، الذي كان سارع للاستجابة الى حوار من خارج المؤسسات دعا اليه الرئيس نبيه بري في آذار الـ 2006، يوم كانت "14 آذار" ممسكة بالسلطة، فتجاوزت "سلطتها" الى طاولة ضمت "متساوين"، وجرى تحقيق انجازات لا بأس بها شكلت قضايا "اجماعية" من دون ان يجري الالتزام بها، كالمحكمة والسلاح الفلسطيني، وترسيم الحدود والاستراتيجية الدفاعية. و"14 آذار"، التي يشكل "الحوار" عصب ادبياتها السياسية، ربما تكون محرجة في مقاربة دعوة الرئيس سليمان، لأنها ستتهم على الأرجح بأنها تمانع في الجلوس مع الآخرين لحوار يتصدى للمآزق الكثيرة التي تواجه البلاد، لكنها لن تجازف وبالتأكيد بأن تقتاد الى حوار بشروط الآخرين وبمواصفاتهم، خصوصاً ان تجربة طاولة بعبدا ستكون ماثلة امامهم كتعبير عن مساوئ تحويل الحوار الى مجرد "حوار للحوار".
اما الرئيس ميقاتي الذي وجد نفسه رئيساً لحكومة قاوم كثيراً لتفادي تجرُّع كأسها، فسيُظهر في رأي البعض قدراً كبيراً من "رحابة الصدر" لأنه يدرك ان مجريات الاوضاع لن تكون في مصلحته، خصوصاً ان امامه حقلا متفجرا من الألغام، أولها الاجراءات المتتالية للمحكمة الدولية بعد انتهاء مهلة الـ 30 يوماً لتسليم المتهمين الأربعة من "حزب الله" ولن تكون آخرها تداعيات التطورات التي صارت "خارج السيطرة" في سورية مع تعاظم الانتفاضة الداخلية ضد نظام الرئيس بشار الاسد وتزايد الاتجاه الغربي للضغط عليه بعد الكلام الاخير عن انه "فقد شرعيته". فالرئيس ميقاتي، الذي سيكون مضطراً لـ "المزاوجة" بين الحفاظ على العلاقة مع نظام الرئيس الاسد، الذي كانت له "اليد الطولى" في تشكيل الحكومة، ومحاولة النأي بلبنان عن شظايا الحدث السوري، سيصاب بـ "سهام" المعركة المفتوحة حول المحكمة الدولية وقرارها الاتهامي، لا سيما في ضوء المراحل المقبلة التي من المرجح ان تكون اكثر اثارة مع نشر مضمون القرار الاتهامي وتحديد المحكمة الدولية موقفها من اداء الحكومة اللبنانية وتعاونها. من هنا فان الوضع في لبنان سيكون مرشحاً للمزيد من الحراك الذي يصعب معه التكهن بطبيعة المرحلة المقبلة ومعاركها، والنتائج التي قد تفضي اليها.