من ذاكرة السيد حسين شرف الدين الثقافة والحركة الطلابيّة والسياسة

كان السيد حسين شرف الدين عرض في حلقة أولى لسيرة عائلته ونشأته وعن دور المدرسة الجعفرية في أبناء جيله. وهنا في حلقة ثانية يعرض للحياة الثقافية في مدينة صور وتأثيرها والتحولات الاجتماعية والسياسية في محيطها.

عن ثقافة مدينة صور وجبلها العاملي يقول السيد شرف الدين: لم يكن في صور هيئات ثقافية، وإنما كان فيها مراكز ثقافية تتمثل بـ:
1 – نادي الإمام الصادق، مركز للمواسم الدينية: عاشوراء وفيها يتحدث جدي طوال الليالي العشر متطرقاً لموضوعات متعددة حسب مقتضى الحال، كما سبق ذكره (تاريخ، فقه) طرف من أخبار الماضين، قصيدة لها مناسبة معينة مع إبراز بعض معانيها وغير هذا مما يمكن إيجاد ربط له بالمناسبة.
يفاجئك أن تجد من هؤلاء الأميين الذين يستذكرون دائما في جلساتهم الخاصة أيام سفر برلك والرديف وعسكر الشريف، يفاجئك أنهم كانوا يعون الدقائق ويناقشون بها بعلم. كما كانت تقام ذكرى المولد النبوي الشريف وتشترك في إحيائها الطائفتان الشيعة – والسنة، وكذلك تشتركان في اجتماع المسجد القديم.
أما يوم الغدير، فكانت تفد القرى المجاورة بسناجقها وطبولها وصنوجها، والرويد سيد الموقف، كذلك الدبكة عند (بوابة صور).
2 – إدارة المدرسة الجعفرية، حيث يجتمع عصراً بعض شعراء وأدباء من صور والمنطقة منهم: أحمد حجازي (ابن البادية)، زكي بيضون (أبو عباس)، الشيخ محسن شرارة وأخوه الشيخ موسى يأتيان من بنت جبيل بين الحين والحين، كامل سليمان – أحمد أبو سعد وكانا يقصدان المشاركة من جويا بين يوم وآخر، رمضان لاوند (كان معلماً في الجعفرية): ثم في أواخر الأربعينات انضم إليهم: أحمد مغنية، جرجس كنعان، وأخرون يترددون بين فترة وأخرى. وكان هؤلاء من خطباء المناسبات الدينية. وكان رمضان لاوند في أوائل الأربعينات شارك بحديث يومي، كذلك جرجس كنعان في الثلاث سنوات التي قضاها في الجعفرية أستاذاً للغة العربية وآدابها ثم مديراً لها.

أحزاب وطلاّب
• وأحزاب تلك المرحلة؟
– كان الحزب القومي السوري هو الوحيد القائم والمهيمن على ساحة صور منذ أواسط الثلاثينات، ولم يكن ينشط ثقافياً، لأن الثقافة التي كان يتعامل بها هي (ثقافة) سياسيي كل العهود (الضرب والإرهاب) إن اقتضى الأمر، وعندما قام الحزب الشيوعي في صور، لم يكن يجرؤ على تقديم نفسه ببرامج ثقافية، حتى لو كان عيد العمال، وهذا لسببين: سرية نشاطه وخشيته من حملة القوميين السوريين عليه.
• لكنك كنت ناشطاً بين الطلاب؟
– الطلاب كان نشاطهم ينحصر في الجمعية الخطابية التي تُنتخب من تلامذة الصفين الخامس والسادس الابتدائيين وكان تعدادهم يقارب الأربعين، ولم يكن بينهم من العروبيين سوى أربعة (كريم مروة وعلي سلامي وعدنان حسن شرارة والمحاور)، فاخترنا أن يكون لنا تشكيل خاص خارج المدرسة ونساهم كطلاب في الجمعية الخطابية، وفي العطلة الصيفية أفردَ مدير الجعفرية (السيد جعفر)، غرفة في المدرسة وجهزها تشجيعاً لنا فأسسنا ما يسمَّى مكتبة ندعو أصدقاءنا إليها للمطالعة، وكان المداوم بشغف، محمد دكروب، وكان تركنا من الابتدائي الثالث بحثاً عن لقمة عيش، وأقر أنه الأكثر إصراراً على التحدي فتخطانا جميعاً. في الفترة التي أتحدث عنها (ما قبل 1945) كانت الجعفرية تقيم مسرحية يمثلها التلاميذ أو مباراة خطابية يقدم جوائزها مصطفى المقدم (صاحب جريدة النضال) وهي 25 ليرة للفائز الأول و15 ليرة للفائز الثاني و10 ليرات للفائز الثالث. ولا أهمل تأثير ما كان يشارك فيه الطلاب من رحلات كشفية ومباريات رياضية محلية، وكان اسم الفرقة التي أسستها الجعفرية سنة 1940 “الاتحاد”، ثم أعطيت اسم “التضامن” حين أصبحت مستقلة ونالت إجازة عمل سنة 1947.

كتّاب روّاد
• ولكن ماذا عن الشأن الثقافي الصرف؟
– ابتداء من 15/1/1945، كان الحدث، صدور مجلة (المعهد) لصاحبها ورئيس تحريرها السيد جعفر شرف الدين، وقد أصدر العددين الأولين على أن تكون مجلة طلابية، ولكن مدارس صور (5 مدارس) اعتبرتها أرفع من مستوى تلامذة صور، لهذا اختار أن تكون مجلة أدبية لاقت ترحيباً على مستوى أدباء صور وبيروت فكتب فيها من الكبار: الشيخ عبد الله العلايلي، والمقالات الاجتماعية التي نشرها هي نواة مؤلفاته الاجتماعية. ومن الكتًّاب: صدر الدين شرف الدين، حسين مروة، واصف بارودي، عمر فروخ… ومن الكتاب الشباب أديب مروة، رياض طه، كامل العبد الله، موريس كامل… ومن الشعراء: محمد رضا شرف الدين، أنور الجندي، إنعام الجندي، تحسين شرارة، محمد علي صادق، حسن الزين، كامل مصباح فرحات… وغيرهم.
وبدا أن المهاجرين في أفريقيا الغربية يتشوقون إلى وصول المعهد إليهم، ولهذا ألحق ضمن المجلة، ملحقاً باسم (المهاجر)، وكان يحررها بالمراسلة المهاجرون الشعراء: محمد يوسف مقلد، نجيب صعب، يونس يونس… ومن الكتاب يوسف أبو خليل، حسين محمد خشن…
بمناسبة الحديث عن “المعهد”، لا بد من ذكر تضحية للسيد جعفر، إذ استلم صيف 1946 حوالة من مهاجري كوناكري (الغينيّة) بقيمة اثني عشر ألف ليرة لشراء مطبعة خاصة له، فما كان إلا أن كتب برقية إلى المشاركين لحظة تسلم الحوالة يشكرهم ويستأذنهم بأنه “وأد البنت” للإبقاء على حياة الأم (الجعفرية)، وكان حينها في حيرة من تأمين رواتب الصيف للمعلمين. هذه المجلة، جمعتها أخيراً ونظمت فهارسها، وأعمل على تأمين سيرة ذاتية لكتابها، وسأصدرها كاملة مع ما أضيف عليها.
علمت مؤخراً أن “المعهد” لم تكن الأولى، فقد كان صدر بتاريخ 11 شباط 1912 جريدة باسم (القوة بالمقابلة) لصاحبها الحاج حسن دبوق، ولا أعرف عنها شيئاً كما لا يعرف أحفاده شيئاً ويبدو من اسمها أنها نقدية هجومية.
وكان للمعهد أبواب متعددة (طواف شهر، قال الراوي، سجل عندك، سندويش، جعبة البريد، قال فلان وأقول، كتب جديدة، عامليات، وفي مجلة المهاجر: هنا دكار، شخصية العدد، بريد المهجر.

مؤلفات وترجمات راجت
• والمطالعة، ما حظها؟
– كانت أولى مكتبة طلابية سنة 1946، وكنت أمينها، وقد أرسلنا رسائل لصحف لبنانية وسورية ولمراكز ثقافية ومكتبات تجارية، وقد كانت استجابة من العديد ممن راسلناهم، وكان الاشتراك في المكتبة مسموحاً للجميع طلاباً وغير طلاب، وأذكر أن الكتب الأكثر طلباً كانت روايات جرجي زيدان، وكتب جبران، وبالذات الأجنحة المتكسرة، الأرواح المتمردة، دمعة وابتسامة. وكان البعض يهتم بمترجمات كامل كيلاني لمسرحيات شكسبير فيبسِّطها لتكون على مستوى أذهان الفتيات، كما كان من الكتب المرغوبة جداً: النظرات والعبرات للمنفلوطي، وكان كتاب رحلات جنيفر. عدم المؤاخذة إن كنت أفصل، ولكني أقصد أن أقدم نموذجاً لاهتمامات جيل الأربعينات الثقافية. كما لا أهمل آلات النفخ الموسيقية التي كان يتقن قراءة سلمها الموسيقي وتطبيقها العديد من أفراد الفرقة الكشفية. وقد ذهبت بكل هذا نكبة فلسطين.
في السنتين 1952 – 1953، تسللت التنظيمات القومية إلى الجسم الطالبي فانتعشت العروبية العاطفية، وقد بدأت بحزب البعث العربي الاشتراكي ثم بعد سنة تقريباً كانت حركة القوميين العرب، ومنذ ذلك الحين بدأ الفكر القومي يأخذ موقعه في الخطاب الثقافي العام من الجسم الطالبي، وشيئاً فشيئاً إلى الجسم العمالي والفلاحي بحيث سيطر على ساحة الحركة السياسية بمواجهة مع السياسات القائمة. إلى جانب أن الاهتمام الثقافي لم يعد منحصراً سياسياً بالقضية الفلسطينية، من حيث المشاعر الدينية أو القومية، بل دخلت ضمن النطاق العام، على أن القضية الفلسطينية هي المحور في موضوعات الفكر السياسي إن كان إسلامياً أو قومياً.

أمسيات ومحاضرات
• لماذا حوّلت الأمسيات العاملية إلى مكتبة؟
– الأمسيات العاملية ويشهد لها كثيرون ومنهم السيد علي الأمين وهو الأكثر حضوراً فيها، كانت محاولة في حلكة من حياتنا الثقافية، وقد أثبتت قدرة على مواظبة في اللقاءات لم يسجلها أحد. استمرت خمس سنوات منظمة محاضراتها، التي تعقد سنوياً (48 محاضرة) وهذا رقم خيالي بالنسبة لجميع البيوت الثقافية ولا تعطل إلا في شهر رمضان، وكانت تختم سنتها بمهرجان للشعر وفي تجمع للبيوت الثقافية في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، ذكرت هذا واعتبرت نفسي فاشلاً، فالتفت إليًّ الدكتور علي سعد وقال: 48 محاضرة ومهرجان شعري وتعتبره فشلاً؟ فقلت: الفشل هو إنني لم ألفت نظر فردٍ واحد من الجيل الجديد ليكون شريكنا باللقاءات.
هذا يعنيني من النشاط الثقافي، إيجاد مركز يغري للثقافة، وليأخذ الزمن المتبقي كما شاء، المهم عندي أن يكون للنشاط الثقافي موقعه الجامع، على أمل أن يتم الوصول إلى شعار تثقيف السياسة لا تسييس الثقافة.

تثقيف السياسة
• تثقيف السياسة أم تسييس الثقافة؟!
– تريد أن تقول أن قوى الأمر الواقع هي السبب بتوقفها. وهذا أبرز موديل من مصطلحات ما بعد الحرب اللبنانية وأدومها، ولكني أقول لك بأني لم أجد في أي نشاط إلا قوى أمر واقع.
كنت ابن سبع سنين، يوم أفردت لنا رمال الشاطئ صدرها في ذات الصيف، وكان إلى جانبنا مجموعة أصدقاء يسلمون أجسادهم للشمس والهواء، إذ بقطيع يتبع كبيرهُ، فتقدم الكبير إلى أحد الأفراد في المجموعة التي بجانبنا ويرفعه ويشبعه ركلاً ولكماً، فقام إليهم عمي السيد جعفر ففصل بينهما، وأبعد المعتدي وواسى المجموعة، ثم عاد إلينا ليخبرنا بأن المعتدي من الحزب القومي السوري، والمعتديَ عليه يهاجم الحزب، ويقال أنه ينتمي إلى حزب آخر في بيروت وفعلاً جاء هذا بعد ست سنوات وأسس الحزب الشيوعي.
الأمر الواقع هو كل استغلال لظرف ما، حتى لو كان استغلال الحذر والمراعاة خشية خلاف أو وقوع ما يعكر الصفو العام، وقد حدثت أمور كثيرة من هذا القبيل يوم أسسنا في الجعفرية (ندوة الفكر) سنة 1967، وكان أن ذهب بها حذر الخلاف، بعد وضوح ضياع (البوصلة)، دعني أسألك الآن، من الذي يجعل الأمر الواقع أمراً واقعاً….؟
أما المكتبة فهي في هذه الشقة التي احتضنت الأمسيات العاملية، جمعت فيها كتبي الموزعة هنا وهناك لتكون نواة مكتبة عامة، وهكذا كانت، وهي الآن تحتوي على عشرة آلاف عنوان. أما سبب توجهي لهذا النشاط، فهو أملاً بأن يكون في البلد من لا يزال عنده رغبة بالمطالعة، أو أن يكون من الناشئة من في جنباته هوس بالمطالعة.

إبحث عن “الشيعة”
والسبب الثاني هو أن يفيد منها طلبة الدراسات العليا في الجامعة، واللبنانية بالذات، مراعاة لغلاء الكتاب، فتوفر المكتبة للطلبة المراجع المناسبة لموضوع الطالب، ومع أن الانترنت تجتذب طلاب (الأخذ السريع)، ولكن عدداً لا بأس به يتردد على المكتبة حيث توضع أمامه المراجع المطلوبة.
في المكتبة كل ما يحتاجه الطالب أي اختصاص في العلوم الإنسانية، وعلى أثر الانسحاب الصهيوني من غالبية الأرض المحتلة من جبل عامل في العام 2000، تردد على المكتبة طلاب وطالبت من الغرب أوكلت إليهم أبحاث عن الشيعة وعلاقاتهم المتعددة، منهم ما هو سياسي ومنها ما هو تنظيم إداري أو تطور سياسي، وأعتقد أنني استطعت أن أعدل ممّا جاءوا به من أسئلة (ملغومة) حول العلاقة مع إيران ومع الفلسطينيين، وكان منهم لبنانيون وغير لبنانيين.
وأستطيع القول هنا في المكتبة (مكانك تحمدي أو تستريحي)، وعن وجوه الراحة أنني لا زلت طالب علم، وصرت أكثر وعياً للعيش مع هذه الأدمغة النيرة التي تطلعني على مسارها في تحصيل العلم، من خلال الكتاب الذي يشكل جهداً لتحصيل وجهد التوصيل لمخزونه.
وأستريح من المتطوعين لـ(بعزقة) أفكار باقتراحات من التطوع يتقدم بها أحدهم دون أن يكون مستعداً للقيام بمسؤولية ما اقترح وحسبه أنه أدى قسطه للعلا، لذلك يطيب لي أن (أستبقه الخير) بتسهيل أسباب النوم له.

السابق
يوم كانت النجف قِبلة حوزات قم
التالي
سلمان نزّال معاناتُهُ أَزهَرت شعراً وأدباً