معن بشور: حين كانت العرقوب بوَّابة فلسطين

 العرقوب بوابة فلسطين، صلة الوصل العربي بين سوريا ولبنان والأرض المحتلة، جمهورية المقاومة الأولى في الذاكرة يتذكّرها كتّاب ومثقفون شاركوا أهل العرقوب حياة الجغرافية المستعرة بالنار والتحدي. مع معن بشور في حلقة أولى..
لا أنسى حين أمضيت أياماً في أوائل عام 1970 في زيارة لشبعا والهبارية وكفرحمام وكفرشوبا مع الأديبة الكبيرة غادة السمان وزوجها أستاذي في الجامعة ورفيق درب نضالي الراحل الدكتور بشير الداعوق حيث أصرّت السمّان أن تكتب تحقيقاً عن تلك المنطقة التي بدأت تجذب أنظار الأمة والعالم إليها…
لقد روى لنا آنذاك عدد من رفاقنا مقاتلي جبهة التحرير العربية التي كان لي شرف المشاركة في تأسيسها كإطار لمشاركة مقاتلين من كل أقطار الأمة في تحرير فلسطين. قصة ذاك الراعي البطل من أبناء كفرشوبا الذي تصدى لدورية صهيونية توغلت في مزرعة حلتا، وهي إحدى مزارع كفرشوبا، وكيف غافل تلك الدورية بقنابل يدوية فأصاب عدداً من أفرادها، وكيف استشهد وهو على سطح منزله وهو الشهيد حسين علي قاسم صالح شبلي.
وقد ترافقت تلك الاعتداءات بتدمير مزرعة حلتا التابعة لبلدة كفرشوبا، كذلك تم أسر مجموعة من المزارعين وهم قاسم صالح شبلي وزوجته صالحة ذياب، ويوسف النمر من عرب "وادي خنسا" خلال انسحاب العدو الذي كان ينقل قتلاه وجرحاه بواسطة طائرة هليكوبتر…
ولا أنسى أيضاً تلك المقاومة المجيدة التي واجه بها أبناء المنطقة ومقاتلو المقاومة أول اجتياح صهيوني كبير في 12 أيار 1970، وكيف استشهد أربعة من رفاقنا في جبهة التحرير العربية، ثلاثة منهم من طرابلس – لبنان أبو ميكل وأبو النصر، وأبو النسور، ومعهم مقاتل من العراق هو صقر البعث ومختار بلدة الهبارية لطف الله زاهر وهم يواجهون أرتال المدرعات الصهيونية، فأظهروا تلاحم الدم اللبناني والعربي على أرض تلك البلدات الطاهرة.

مواجهة الموت مع أبي عمار
في حرب المائة يوم أواخر شباط 1972، أذكر أنني التقيت بالرئيس الشهيد ياسر عرفات في المنطقة حيث كان يتفقدها فيما الطيران الصهيوني يقصف قواعد المقاتلين، ويبدو أن طيران العدو رصد حركة أبي عمار وحاول استهدافه، فلجأ وكنت معه، إلى كنيسة حاصبيا حتى تراجعت حركة الطيران الحربي، فركب سيارة أخرى وعدنا إلى مخيم النبطية، لتفاجئنا آنذاك الغارات الصهيونية التي بدأت تقصف مقر قيادة الثورة في ملجأ أقيم في النبطية واستطاعت أن تنال من شهيدين من حراس المقر الذي كان يجمعنا آنذاك مع قادة المقاومة… وكانت تلك أول غارة إسرائيلية على مخيم النبطية الذي دمّر نهائياً فيما بعد.
في حرب تشرين 1973، حيث نجحت المقاومة وأهل الجنوب عموماً، والعرقوب خصوصاً في إشعال جبهة ثالثة ضد العدو، أمضيت أياماً متنقلاً بين قرى تلك المنطقة نجتمع بالمقاتلين وننقل أخبارهم إلى وسائل الإعلام، ونشهد بأم العين طائرات العدو الحربية والاستكشافية تطارد المقاتلين من موقع إلى آخر…

شرف الريادة
وحين دمّرت كفرشوبا تدميراً شبه كامل أوائل عام 1975، كان لي شرف مع رفاقي، لا سيما في منظمة كفاح الطلبة، والجبهة الوطنية الطلابية، ومجلس الطلبة في الجامعة الأمريكية، المساهمة في إطلاق العديد من المبادرات التطوعية لطلاب لبنان وشبابه الذين توجهوا إلى القرية المدمرة من أجل إعادة إعمارها، تماماً كان لنا شرف المساهمة في توفير بعض مقومات الصمود من خلال المؤتمر الوطني لدعم الجنوب، الذي كان يرأسه المحامي طارق شهاب ويتولى أمانة سره المحامي خليل بركات…
وبقيت صلتي بتلك المنطقة حتى بدأت الحرب الأهلية اللعينة التي حوّلت الأنظار عن العدو الصهيوني إلى المعارك العبثية في الداخل، فبات الوصول إلى العرقوب مستحيلاً حتى كان احتلاله كاملاً عام 1978، وأدركنا بوضوح كيف أن حروب الداخل هي الثغرة التي طالما ينفذ منها أعداء الخارج…
ولكن صورة العرقوب بقراه وأبنائه الشرفاء وشهدائه البررة وفي مقدمتهم الأخضر العربي (أمين سعد وحسين علي قاسم، وأحمد العقيبه) بقيت ماثلة في الوجدان والذاكرة كصورة حيّة عن منطقة قدمت أغلى ما لديها من أجل الوطن والقضية…
بعد عام 1982، بات الجنوب كله، بل لبنان بأسره، صورة شاملة عن العرقوب، فاحترقت قرى ومدن وسقط شهداء وجرحى، وارتفقت رايات المقاومة حتى التحرير… لكن يبقى للعرقوب شرف الريادة ورمزية البداية…

صفحات مجيدة
إن العرقوب كان البداية، ولكن الجنوب كله، ومعه البقاع الغربي وصولاً إلى الجبل والعاصمة، واصلوا المسيرة.
ولعل من أبسط الواجبات الوطنية القومية اليوم هو في أن نستذكر معاً تلك الصفحات المجيدة في حياة العرقوب، أن نعيد كتابتها، أن ندرسها لأبنائنا كجزء لا يتجزأ من تاريخ المقاومة والصمود في الأمة، وأن نسعى، بشكل خاص، إلى أن نفي هذه المنطقة المجاهدة بعض حقها من الإعمار والإنماء والرعاية على كل الصعد.
فالحديث عن بطولات العرقوب في وجه الصهاينة وكل المستعمرين كجزء من بطولات الجنوب والوطن والأمة، له معان متعددة لا تسهم فقط في تنمية الوعي، وتعميق الذاكرة فقط، بل في التأكيد على الطابع الوطني والقومي والروحي لمعركتنا مع العدو…
وإعادة قراءة تاريخ لبنان المعاصر، وصفحات مقاومته المجيدة، لا بد أن تمرّ بالعرقوب منارة المقاومة، وقبلة الأحرار، ورائدة التصدي لكل عدوان وظلم.
العرقوب هو بدون شك أحد بوابات الأمة إلى فلسطين، ولكنه أيضاً إحدى قلاع الدفاع عن استقلال لبنان وعربته والأمن القومي للأمة، فمن العرقوب نطل على فلسطين وعلى أغوار الأردن وعلى الجولان، وعلى جبل عامل، بل نطل على الأمة كلها، فمن كان له جغرافية العرقوب، ومن كان له صمود أبنائه والتزامهم وشجاعتهم، صار جزءاً حيّاً من تاريخ الوطن والأمة، وهو بالتأكيد مساهم في صناعة الحاضر وفتح آفاق المستقبل.
 

السابق
قبلان: للمداورة في الوظائف والمراكز الأولى بين الطوائف
التالي
يوم كانت النجف قِبلة حوزات قم