قيادة نتانياهو الكارثية

لدى ييغال عامير سبب جيّد ليشعر بالرضى في سرّه. فقاتل إسحاق رابين يعلم أن الرصاصات الثلاث التي أطلقها ليل الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 قد أغلقت الباب بقوة في وجه السلام وغيّرت مسار التاريخ الإسرائيلي.

وفيما هو يجلس في زنزانته المريحة التي تم تخصيصها له في بئر السبع منتظراً زيارات لاريسا تريمبوفلير الزوجة الروسية التي ارتبط بها في السجن، لا بد من أن يكون عامير يتلذذ بمساهمته الحاسمة في القضايا المتطرفة والتي قتَل في سبيلها رئيس الوزراء الإسرائيلي: صعود اليمين المتطرف، الصهيونية الدينية المتشددة التي ينتمي إليها، ومستوطنات الضفة الغربية الدائمة التوسع، والمعاناة المستمرة للفلسطينيين، الذين لم يقتصر الأمر على انتزاع أراضيهم منهم، إنما حريتهم أيضاً، والعدالة وحقوق الإنسان.

وقد يكون القاتل مسجوناً مدى الحياة، إلا أن سياساته مستمرة. وخلال السنتين والنصف السنة التي تولى خلالها منصب رئيس الوزراء، سلك بنيامين نتانياهو بعزم المسار الذي شقه ييغال عامير وكأنه كان مصمماً على تعزيز إرث المتطرف الشاب.

وبذل بنيامين نتانياهو كل ما في وسعه لتجنب السلام مع الفلسطينيين. فقد أبقى على احتلال الضفة الغربية، واستمر في شن حرب اقتصادية على 1.5 مليون فلسطيني محاصرين في غزة، وحاول وضع اليد على ما تبقى من القدس الشرقية العربية، ورفض التفاوض في أي شكلٍ من أشكال النية الحسنة.

تعطشه للأرض لا يعرف على ما يبدو أي حدود. وقد منح المستوطنين المتطرفين حرية توسيع مستوطناتهم غير القانونية وتعريض جيرانهم الفلسطينيين للعنف المنهجي عبر إحراق محاصيلهم، وتقطيع أشجار الزيتون التي يملكونها، وتدنيس مساجدهم.

ولا عجب في أن الفلسطينيين، وبعد يأسهم من النيات الإسرائيلية، قرروا السعي للحصول على اعترافٍ بدولتهم في الأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) المقبل، وهي مبادرة ردّت عليها إسرائيل بما يشبه حالة الذعر. ولن ينهي اعتراف غالبية كبيرة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية الاحتلال، إلا أنه سيبرز أكثر فأكثر عزلة إسرائيل.

وعلى الصعيد الداخلي، سمح نتانياهو للعناصر اليمينية المتطرفة والدينية المتشددة باكتساب نفوذ لا يتوقف عن التعاظم ضمن الجيش الإسرائيلي، وفي المجتمع، وفي حكومته. وقوّض الديموقراطية الإسرائيلية عبر تشجيع عقيدة قمعية وعرقية بذل ما في وسعه لتحويلها إلى قانون. والمثال الأخير على ذلك قانون «حظر المقاطعة» الذي يفرض عقوبات شديدة على أي شخص يدعو إلى مقاطعة إسرائيل ومقاطعة منتجات مستوطناتها غير القانونية.

لقد تكبدت إسرائيل كلفة باهظة نتيجة هذه السياسات. وعانت سمعتها وموقعها الدولي في شكل هائل. ويُنظر إليها في الكثير من الأوساط الديبلوماسية الغربية كمصدر إزعاج فعلي. ولم يساعد سمعة اسرائيل تعيين الرجل الفظ غير الديبلوماسي والسيئ السمعة، أفيغدور ليبرمان، مسؤولاً عن العلاقات الخارجية.

وفي موازاة ذلك، أدى سلوك اسرائيل الوحشي تجاه الفلسطينيين إلى ظهور حركة مقاومة مدنية سلمية واسعة على النطاق العالمي باسم «حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات» المعروفة باختصار «BDS» وتهدف إلى جعل إسرائيل تعود إلى رشدها قبل أن تحلّ الكارثة.

وعلى رغم أن إسرائيل تسعى لتبرير موقفها المتصلب بحاجتها المطلقة لحماية نفسها ضمن بيئة عدوانية، إلا أن سياسات نتانياهو وجهت إلى قضية الأمن صفعة قاتلة. فواشنطن ستستمر بلا شك في ضمان قدرة إسرائيل على هزيمة أي تكتّل لأعدائها، وهي ضمانة صيغت فعلياً كقانون أميركي. إلا أنه وعلى مستوى أعمق، تسبب نتانياهو ورفاقه المتشددون بتغييرات غير مؤاتية في بيئة إسرائيل الإستراتيجية.

> حلف إسرائيل الأساسي مع تركيا انهار تقريباً. وقد دُق المسمار الأخير في نعشه عند الهجوم القاتل الذي شنّته السنة الماضية مجموعة كومندوس إسرائيلية على سفينة «مافي مرمرة» التركية التي كانت تحاول فك حصار غزة وحيث لقي تسعة نشطاء موالين للفلسطينيين مصرعهم. وتطالب تركيا باعتذار وتعويض عن القتلى. أما ليبرمان، فيرفض ذلك تماماً.

> مقابل جهودها التي لا تهدأ لتصوير إيران على أنها الشيطان، فشلت إسرائيل في جرّ الولايات المتحدة إلى حرب ضدّ طهران. ويشكل هذا الفشل انتكاسة فعلية لجهاز الدعاية الإسرائيلية الضخم. وقليلون هم المراقبون، إن وجدوا، الذين يعتقدون أن إسرائيل قد تجرؤ على توجيه ضربة الى إيران بمفردها والمخاطرة بالتعرّض لخطر محتوم، وربما لتبعات مدمرة. وبالتالي تستأنف ايران برنامجها النووي من دون مراقبة.

> معاهدة السلام التي وقعتها إسرائيل مع مصر عام 1979 – والتي ضمنت إسرائيل بموجبها تفوقها على مدى ثلاثة عقود عبر إزاحة اكبر دولة عربية من الاصطفاف العسكري العربي – اصبحت مهددة. وقد ينجو الاتفاق ربما من حيث الشكل، لكن التغييرات الثورية التي تحصل حالياً في مصر أفرغته من مضمونه. ولن يكون هناك تواطؤ مصري بعد الآن مع إسرائيل ضد الفلسطينيين أو ضد إيران.

> على رغم كل جهودها، فشلت إسرائيل في تفكيك محور طهران – دمشق – «حزب الله» الذي شكل العقبة الكبرى في وجه الهيمنة الأميركية – الإسرائيلية على المنطقة خلال السنوات الكثيرة الماضية. وعلى رغم حملة الضغط المكثفة ضدّ سورية في الولايات المتحدة الأميركية التي قامت بها «أيباك» و «معهد واشنطن»، المنظمة الشقيقة لـ «أيباك»، وعلى رغم حملة أخرى مماثلة في أوروبا شنتها المجموعات الموالية لإسرائيل، تمكنت سورية ومحورها من النجاة.

وتواجه قيادة بشار الأسد الصلبة والأوتوقراطية معارضة غير مسبوقة. ولقيت محاولته إسكات المحتجين بعنف إدانة فعلية. إلا أن الوضع على ما يبدو لا يشكل خطراً على النظام أو ليس إلى الآن على الأقل. وفي موازاة ذلك، لا يزال «حزب الله» حليف سورية قوياً على الصعيدين العسكري والسياسي. وإذا جُمعت هذه التطورات، فإنها تشير إلى أن تفوق إسرائيل العسكري على دول جوارها يبدو غير قابل للاستمرار على المدى الطويل. وقد تضطر في نهاية الأمر للقبول بالتعايش، وذلك أسوأ كوابيسها، مع ميزان قوى إقليمي.

ومن بين جميع النتائج المتأتية عن سياسات نتانياهو، فإن الضرر الحقيقي قد لحق بأميركا. فقد أذلّ نتانياهو أوباما، وتجاهل بفوقية محاولاته لإرساء السلام. ومنحت المنافسة بينهما العالم صورةً عن العجز الأميركي. وسخّف نتانياهو مقاربات أوباما للعالمين العربي والإسلامي. وكان الرئيس عاجزاً عن تهذيب حليفه الضال بسبب القيود التي يفرضها منتمون إلى مجموعات الضغط والكونغرس الفاسد.

ولا شك في أن هناك أسباباً عدة لمواجهة الولايات المتحدة الأميركية حالياً عدوانيةً كبيرةً في أنحاء كثيرة من العالم العربي والإسلامي. والسبب الأساس يكمن في حروبها التي شنتها في العراق وأفغانستان وباكستان وأنحاء أخرى، والضرر المادي والإنساني الكبير الذي تسببت به. إلا أن دعمها الأعمى لإسرائيل شكل أيضاً عاملاً مساهماً مهماً. وقد ترتبت على رفض نتانياهو المتعنت لإقامة سلام مع الفلسطينيين كلفة باهظة بالنسبة الى الولايات المتحدة. وستزداد هذه الكلفة مع استمرار الاحتلال وتلاشي احتمال التوصل إلى سلام.

وفي موازاة ذلك، يقبع الجندي الاسرائيلي المنسي أمره غلعاد شاليط، وهو احد ضحايا النزاع، في إحدى زنزانات غزة منذ خمس سنوات. وكما كان متوقعاً، لم يقدم نتانياهو على مكافأة حركة «حماس» المكروهة في اسرائيل بإطلاق سراح بضع مئات من بين آلاف الفلسطينيين القابعين في السجون الإسرائيلية مقابل اطلاق هذا الجندي.

السابق
فزاعة الفتنة من أجل المحكمة أم السلطة؟
التالي
ماروني: خطف الأستونيين أضر بسمعة لبنان والافراج عنهم أظهر أن الملف الأمني ليس بيد الدولة