الثورة والسلم وتحولات المشهد العربي

ما كان منتظرا من شبان الثورات العربية أن يكونوا فقهاء في القانون وآليات عمل المحاكم، لكن هناك ثلاثة أمور ينبغي عدم نسيانها: أن الثورات جميعا – خاصة غير الحزبية منها – ذات طبيعة أخلاقية.. هذا يعني وجود إحساس عميق بضرورات النظافة والطهورية، وأن هناك إحساسا عميقا لدى الفئات المشاركة بقوة في الثورات العربية بالظلم، وهذا يعني اتسامها بقدر كبير من نفاد الصبر، وأخيرا فإنه من طبائع الثورات الجارفة مثل حركات التغيير العربية أن تلتحق بها فئات صغيرة من قاع المجتمع تندفع بطبعها للفوضى وبعض التخريب والتجني وتقصد الأهداف السهلة. وهذا يعني أن أكبر ما تعانيه حركات التغيير ليس التآمر من بقايا السلطات السابقة كما يظن بعض المراقبين (مع أن ذلك موجود وملحوظ دائما)؛ بل العشوائية الطارئة في تحديد الأهداف أو في تضييعها.

وهذه الأمور الثلاثة ظاهرة في حركات التغيير الجارية في العالم العربي؛ إذ إنها جميعا ما استندت في انطلاقتها أو مسارها إلى حزب قائد أو جماعات منظمة تملك تصورا مسبقا لما تريد بلوغه وهو الاستيلاء على السلطة؛ بل إنما حركتها دوافع أخلاقية فوق سياسية أحيانا مثل الشعارات السائدة وهي: الحرية والكرامة والعدالة. وتفضي هذه الشعارات إلى طهورية راديكالية يغذيها الإحساس العميق بالظلم، وضرورة التخلص من الخصم الذي غل حركتها وقيدها وانتهك حقوقها وكرامتها على مدى عقود.

ويبدو ذلك في الثورات بتونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا. أما الأمر الثالث، وهو اندفاعة الفئات الدنيا المعذبة والمسحوقة، فيبدو فيها أيضا، وإن بمقادير مختلفة. وباستثناء ليبيا، فإن الثورات هذه حماها حتى الآن الطابع السلمي الذي أصرت عليه بوعي رغم القسوة العنيفة التي واجهتها بها الأنظمة القائمة. ففي ليبيا كما هو معروف، فقدت حركة التمرد المجتمعية طابعها السلمي بالتحول خلال ثلاثة أسابيع من انطلاقتها إلى صراع مسلح بين الثائرين والنظام القائم. وفي حين وقفت جهات عربية وأفريقية مع حكم القذافي، وقفت جهات عربية ودولية مع الثائرين، ولا يزال الصراع مشتعلا بين الطرفين حتى اليوم. وهذا الصراع المسلح سوف يؤثر بالطبع ليس في مصائر التغيير فقط؛ بل وفي القدرة على العودة إلى الحياة المدنية المنتظمة، والشروع في تكوين السلطة أو السلطات الجديدة.

وما استطاعت السلطات القائمة الصمود في تونس ومصر طويلا رغم شراسة الهجمة على الثائرين، لأن الجيش في البلدين تخلى عن النظام القائم، فانحمت بذلك سلمية الثورتين، وانحفظت وحدة المجتمعين والبلدين. لكن ظهر فيهما خطر العنصر الثالث: راديكاليات الفوضى والعشوائية؛ فقد احتكم الشبان المدنيون والقوى السياسية الوازنة إلى القضاء لإجراء المحاسبة ذات الطابع المنتظم التي تحقق شعار حكم القانون. وعندما زرت مصر قبل شهر، كانت الانقسامات السياسية بشأن مسارات إعادة تكوين السلطة قد تفاقمت؛ لكن الجميع كانوا مطمئنين إلى مقياسية القضاء والقانون في إجراء المحاسبات والعمليات التطهيرية. وعندما يجري حديث تفصيلي؛ فقد كان هناك من يرى أن الرئيس السابق لمصر يعامل برأفة أكثر من اللازم؛ بينما رأى آخرون أن الرئيس الشيخ ينبغي أن يحفظ له احترامه. بيد أن أحدا ما كان يرى التدخل في عمل القضاء أيا كانت الأسباب. وانحفظ الشأن بتونس لهذه الناحية، لأن الرئيس السابق غادر البلاد ليلة سقوط نظامه، فأقام القضاء عليه دعوى أو دعاوى غيابية، فما انقسم الناس حولها أو حوله.

في الأسبوعين الأخيرين بالذات، وفي تونس قبل مصر، ظهرت راديكاليات عشوائية من جانب متظلمين من بطء القضاء، بل ومن انحيازه، وتصاعدت الشكوى من جانب أهل الضحايا الذين سقطوا برصاص القوى الأمنية في أيام الثورة الأولى. وبدأ الأمر بتجمعات صغيرة من جانب أهل الضحايا ومؤيديهم ممن استبطأوا عمل القضاء، أو اتهموا رجالاته بالمحاباة أو بالتبعية للنظام السابق. فهناك عدد من الضباط أو المسؤولين الأمنيين السابقين، جرى إطلاق سراحهم، أو صدرت بحقهم أحكام خفيفة لعدم كفاية الأدلة. والمتظلمون أخلاقيا أو عشوائيا يتمترسون في الشارع أو يعودون للتمترس أمام وزارة الداخلية أو مؤسساتها، ويقولون إنهم لن يغادروا حتى يحاكم ويعدم من قتلوا أبناءهم أو إخوانهم أو أقاربهم. وبذلك تتفاقم مشكلات الأمن، لأن الضباط حتى من غير المتهمين فقدوا الهيبة، وما عادوا يريدون أو يتجرأون على مواجهة الجمهور أو تحديه بما في ذلك الحالات التي يجري فيها إخلال غير مسوغ بالأمن.

المشكلة الأخطر أن السلطات العسكرية التي تحمي الحكومات الانتقالية القائمة، ما عادت تميل هي أيضا إلى حماية الإدارات المدنية والأمنية من غضب العشوائيين، وذوي المطالب الفئوية، كما يسميها المصريون. وقد رأيت على التلفاز أساتذة في العلوم السياسية أو في القانون يطالبون باستبدال القضاء العادي، وإحلال القضاء الثوري محله! وهؤلاء لا يترددون في الحديث عن المحاكم الثورية التي أتت بها الثورة الفرنسية أو الروسية أو الإيرانية، التي ينبغي أن تصفي عناصر الفساد والثورة المضادة! وفي حين اتهم رئيس وزراء تونس بأنه من أعوان النظام السابق، حمل البعض بمصر على رئيس الوزراء، وقالوا له إنهم هم الذين عينوه، وينبغي أن يخضع لإرادتهم ومطالبهم وليس للمجلس العسكري المحافظ وغير الثوري. وقد سارع رئيس الوزراء إلى إقالة أو تسريح الضباط الأربعمائة الذين وجهت إليهم تهم لم تثبت بعد، ثم أقال نائبه الفقيه القانوني والدستوري المعروف يحيى الجمل (بعد علي الغتيت رئيس مستشاريه القانونيين)، لأسباب مختلفة أهمها تقليديته وعدم ثوريته وإصراره على حكم القانون، وعدم التدخل في شؤون القضاء! وإذا كانت الأحداث المتوالية قد دمرت بنية أجهزة الأمن؛ فإن الظاهرة الجديدة (الحملة على القضاء)، يمكن أن تتهدد البنية القانونية العريقة بالدولتين التونسية والمصرية، وهذا أمر مدمر شهده العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003. وهو يهدد من جهة أخرى بعدم وصول المحتجين إلى حقوقهم، وإيقاع الظلم بفئات واسعة؛ في حين أن تلك الثورات قامت لإلغاء أحكام الطوارئ، والمحاكم الاستثنائية!

وقد نجح النظامان اليمني والسوري في الصمود حتى الآن، للسلمية الشديدة التي تتميز بها الثورتان هناك، ولأن الجيشين اليمني والسوري داخلت بناهما اختلالات بالقوات الخاصة وبالحرس الجمهوري، وبقيادات الأقارب والأعوان.
وقد بذلت السلطات بسورية جهودا أكبر بكثير من سلطات اليمن؛ لدفع المتظاهرين باتجاه حمل السلاح، من طريق استخدام العنف المفرط ضدهم، ومن طريق تنظيم ميليشيات طائفية، لإثارة نزاع طائفي. بيد أن شيئا من ذلك لم يحدث، وها هم أهل حماه ينزلون إلى الشوارع بمئات الآلاف دون أن تحدث ضربة كف، بعد خروج قوات الأمن منها.

ورغم أن الثورات العربية في البلدان الخمس في مراحل مختلفة من تطورها؛ فإن الذي يمكن قوله إن حركة التغيير السورية هي الأكثر انضباطا حتى الآن ولجهتين: انفراد السلطة باستخدام العنف، وإصرار الثائرين على سلمية تحركاتهم، وضآلة ظهور العشوائيين الراديكاليين في صفوفهم.

نحن نعرف الآن أن النزوع السلمي للجمهور أكبر عوامل إضعاف النظام المتسلط، وهو يحفظ وحدة المجتمع والدولة. أما الإصرار على الانضباط تحت حكم القانون؛ فإنه يسرع عمليات بناء السلطات الجديدة.

السابق
عتابصيداوي لحزب الله. وتأكيد العلاقة الاستراتيجية
التالي
الشيخ العيلاني :شعرنا بالعزة والفخر في تموز 2006