المراسلة نصف المشاهدة

 قبل وجود البريد الحكومي كانت الرسائل تنقل بواسطة شخص من بلد إلى بلد، وكان يسمى هذا الناقل (طارش أو مرسال) ويكون الناقل هذا عادةً إما مأجوراً أو في خدمة سيده أو أن تنقل بواسطة مسافر صدفة. وفي بعض الأوقات يكون الناقل إما ناطور القرية أو راعي عجالها وهذان يرسلان مجاناً لأن أهل القرية يدفعون أجرة سنوية لهما، ومكلِّفهما بنقل الرسالة إما المختار أو وجيه البلدة ومن لفَّ لفه.
وحيث أن الأمية كانت هي الغالبة بين السكان ونادرون هم الذين يكتبون فكثير من الرسائل كانت شفهية، وكثيرون الذين كانوا لا يستعملون بالمراسلة لا الرسائل المكتوبة ولا الرسائل الشفهية بل يكلفون بذلك النسيم الشمالي أو الريح العربي أو الطير الطائر بتبليغ تحياتهم وأشواقهم إلى أحبائهم البعيدين وطبعاً لم تكن الرياح ولا النسائم لتحمل التحيات والأشواق ولا الأحباء كانوا ليتلقونها ولكنها لغة العاجز.
 وهكذا كانت كتابة الرسائل وإرسالها من الأعمال النادرة لا سيما أنه لم يكن في تلك الأيام لا هجرة ولا اغتراب فالكل يخلقون ويعيشون ويموتون في القرية ومن يتركها إلى سفر بعيد إنما هو المجند الذي نادراً ما كان يعود إلى قريته فيقضي إما في اليمن أو في القفقاس أو في الرومللي (تركيا الأوروبية) إما قتلاً أو دنقاً من البرد أو جوعاً. حدّث المرحوم السيد إبراهيم عاشور وكان جندياً بدرجة رقيب في البر الأناضولي قائلاً:
"إن الحكومة العثمانية عندما كان يمرض الجندي ثم يتماثل إلى الشفاء كانت تعطيه إجازة غياب عدة أيام للنقاهة. وكان المسكين يفرح بهذه الإجازة لأنه (سيبرشق) معدته فيها ويستريح ولو لفترة من طعام المستشفى (الاستخانة) وطعام الثكنة (القشله) الذي هو عبارة عن ماء مغلي في أسفله بعض حبات العدس مع بعض قطع لحم تحتاج إلى ناظور لرؤيتها مع رغيف خبز أسود لا أذاقه الله لمحب. وهذه الوجبة من الطعام التي تدعى بلغة الجندية العثمانية (قروان) لا يعادلها في زهدها إلاَّ طعام العلماء الذي هو عبارة عن خبز وماء. فيغتنم الجندي فرصة تسريحه من المستشفى ليدور على أبواب المحسنين لا سيما إذا كان عربياً لا تربطه رابطة مع السكان المحليين، فيتناول من فضلات طعامهم التي إن لم تكن لذيذة وكثيرة كما يشتهي فهي على الأقل متنوعة وفيها تغيير طعم والمثل يقول (مشكل وملون مثل طعام الشحاذين)".
والسفر العادي كان مهما بَعُد، لا يتجاوز صور أو صيدا أو بيروت أو الشام. والذين كانوا يسافرون إلى هذه المدن هم التجار والمكاريون أما بقية السكان فإن قدِّر لهم الخروج من القرية فيكون ذلك إلى الأسواق العامة كسوق بنت جبيل أو سوق النبطية أو سوق الخان وغيرها.
وكان البعض إذا أرادوا أن يتباهوا بأنهم سافروا كثيراً ورأوا كل الدنيا كانوا يقولون: (درت الدنيا من فقش الموج إلى مرمى الثلج) باعتبار أن الدنيا محصورة بين صور وجبل الشيخ فقط. وطبعاً لم تكن معروفة في أيامهم الأنشودة التي مطلعها:
من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر
لبيك عبد الناصر
ليعرفوا أن البلاد العربية وحدها تمتد من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلسي ويا ليتهم يعودون ليروا.
وعندما كانت تكتب الرسالة كان الكاتب يطويها عدة طيات ويدخل طرفيها ببعضهما ويكتب العنوان على أحد جانبيها إذ لم تكن تستعمل الغلافات المعروفة. ولما بدأ استعمال الغلافات توسع الكاتب ونوَّع عبارات العنوان وكان بعد كتابة العنوان يرسم بسرعة في المكان الأسفل الفارغ من الغلاف خطاً حلزونياً يشبه الحية الملتفة على نفسها.
وقد سئل أحد هؤلاء الكتبة عن معنى هذه الإشارة فضحك وقال: معناها – حيزي ميزي بيوصل لمّا لطيزي -.

السابق
واكيم حاضر في عيناتا عن الثورات في العالم العربي
التالي
لبن وسِتْميت لبن!