الشاعر كامل رضا: الجنوب شاعر يملي قصائده على من يحسن الإصغاء إليه

مثقف متواضع بحق، مترفع عن التشاوف، لاذع بنقده المهذب خوفا من أن يجرح، أديب لم يأخذ حقه، مربيّ أجيال، أجيال باتت اليوم تنشأ على وقع ضربات (الكيبورد) وليس على وقع صوت المعلم، الذي أحضر معه ذات مرة المسجلة ليُسمعنا صوت مرسيل خليفة حين كان يغني (سأحدثكم عن أيمن).

بيد من إرادة وعزم شكّل مع مجموعة من شباب بلدته (البابلية) ناديا ثقافيا إجتماعيا إنمائيا في سبعينات القرن الماضي حيث كانت الرغبة في التغيير أقوى من كل شيْ، ولقد استمر العمل في ثمانينات القرن الماضي والى يومنا هذا في جمعية التضامن الانمائي. انه (الأستاذ) الحقيقي كامل رضا.

في محاولة لرد جميل من جيل بات "منقرضا" وغريبا نوعا عن هذا الجيل، الا اننا نحن (تلامذته) بتنا آخر حلقة من حلقات التعليم والتربية والادب وصناعة الانسان وليس الآلة. كان لنا لقاء معه،

سلاطين الصفحات الثقافية
• كيف تعرّف قراء "شؤون جنوبية" على نفسك؟

لست من (الفرق الناجية) أو التي سعت الى النجاة عبر صناعة علاقات متسعة ومصطنعة أحيانا لبلوغ الضوء، أو لتغدو تحت الضوء ولو كان خافتا. وكما هو الحال دائما، إنّ تألق عدد من الشعراء قد يحجب كثيرين عن الضوء فيصبحون قانعين بالمحيط الضيق أو بحدود من يعرف عنهم حرفتهم في الادب أو إكتواءهم بلظى اشتعاله الدائم الإوار في نفوسهم. إني من المهتمين بالشعر والأدب، ولم يعد يجدي القول بأن لي محاولات، وقد بلغت من العمر ما بلغت، بعض ما كتبت مسموع من على منابر مختلفة الاتجاهات، وما نشرته قليل، في صحف ومجلات، بعد استئذان سلاطين الصفحات الثقافية.

وبما أن الإبداع عملية حرية دائمة، فلم أقامر بأن أدفع نصوصي الى من يسترقها من هؤلاء السلاطين ولو بابتسامة، أو برشى من علاقات لا أجيدها. وبما أن العمل الابداعي فرديّ بامتياز ينحو باتجاه النرجسية والانانية، فإني ساع لارضاء ذاتي، ومع هذه الذات الذين هم على مقربة من منازع الهوى ونوافذ الهّم المشترك، وعلى المقلب الآخر، فإن شعراءنا الكثر الذين يتصدرون الصحف والجرائد ومحطات التفلزة غدت نرجسيتهم فاجرة لدرجة أنهم باتوا كعارضات الأزياء، يتجملون ويجاملون ولا يرعوون حتى عن عمليات التجميل الجسدية، وحتى اللغوية إن رأوا في قصائدهم بعض ما يشي بمواقف قد لا يرغب بها سلطان الميديا على انواعها، وبالتالي فأشهى ما هم فيه أن يكسروا قوائم الكراسي التي يجلس عليها نظيرهم لتظهر وجوههم فوق، متباهين بأنهم لا ينظرون إلى (تحت) الذي هم منه وإليه انتموا، وبالتالي فهم أو لا أحد، اللهم إلا واحدا منهم أو أثنين تراهم يتأبطون كتب الناشئين أو الذين اخرجوا دواوينهم من عتم (الجوارير).

مراجل العمل المقاوم
• لعبت مع مجموعة من المعلمين اليساريين في دار المعلمين دوراً مهماً في تنشئة جيل بتنا اليوم نتندر على دور المعلم التربوي والتعليمي، أين وكيف تحول هذا الجيل الى التشدد والتطرف الديني؟

انتقلت الى القرية للعمل في التدريس بعد دار المعلمين، كات مرحلة نمو القرى- في أواخر الستينات وبداية السبعينات، والعالم – كما هو حال اليوم- مرجل تستعر فيه مراجل العمل المقاوم، والعالم يضج بمشاريع اليسار في أربع جهات الارض: الالوية الحمراء، التوباماروس، الحركات الثورية…

وكنا من المتلقين، لكننا والحقيقة تقال، لم نكن صدى متعاليا لمثل تلك الحركات وايديولوجيتها، بل كان انتماؤنا تنمويا في التواصل مع محيطنا، اذ استطعنا ان ندفع بالمدرسة قدما لتستقطب طلاب المنطقة المحيطة بالبابلية، مما أفرغ المدارس المجاورة…، ولقد كانت باكورة اعمالنا عددا كبيرا من الطلاب الذين تحولوا بدورهم الى كوادر ناشطة اجتماعيا في مجالات العمل القروي والمدني، أطباء ومهندسين، وكتبة وناشطين في ميادين مختلفة.

البابلية ساحة أفكار
• تاريخ البلدة من تاريخ أبنائها. تمّيز جيل الستينيات والسبعينيات بخدمة بلدة كالبابلية بشكل خاص، والجنوب بشكل عام؟ كيف تصف وتتذكر أشكال تميّزها؟

في الجنوب قرى مهجورة ومهجرّة بعامل البحث عن إمكانية عيش أو البحث عن الترقي في سلم الوظيفة، أول ما يبدأ به من غادر القرية أن ينفض غبار الأرض عن يديه وثيابه، ويُبعد حسك السنابل عن بذلته التي اشتراها مستعملة ليعلن إنتماءه إلى المدينة، أو هكذا كان يظن… في هذه المرحلة ذاتها كنا نعود الى القرى معلمين ومبشرين بأفكار جديدة في قطيعة تامة عن السائد في الفكر. وقد غالى بعضنا فذاك الذي عمل على قطيعة تامة حتى في نظام العيش من لباس وشراب ومؤشرات هي أبعد ما يمكن ان يحتملها ذلك المجتمع الذي كان الى حد ما هانئا.

لم نكن مدرسين فقط، بل عملنا في البناء وشق الطرق ورصفها، تحولنا الى جماعة من الفعلة، وعملنا على كسب ثقة ما زالت ثمارها تتيح لنا أن نتمتع ببقعة ضوء نقيّة في قريتنا هذا ما أعلى من شأن القرية في مجال التعاون والاحترام وجنبها مزالق الاحتراب ولو كان ذلك على شيئ من ستر. بل أعلى قيم التعاون والتواضع، وجعل من العامل في سبيل الشأن العام القروي في مرتبة الثقة. لكن المشكلة اننا اليوم نقف مكتوفي الايدي- اذ تقدّم بنا العمر ولم نجد جيلا جديدا يندفع في مجال العمل التطوعي المجاني- وهنا ليس مجال للافاضة.

البابلية من هذه القرى الجنوبية، الا انها تقف وتنمو على حد النقد والمواجهة مع الاقطاع منذ زمن بعيد، ولها تراث خاص في ذلك هيّأها لتغدو مساحة تلتقي فيها افكار وتلتقي فيها اجيال مختلفة الأعمار حول برامج فكرية وتنموية تمحورت حول ناد اجتماعي انشئ في ذلك الوقت، لقد غدت ساحة القرية جمعيات عمومية دائمة تناقش فيهاالصغيرة والكبيرة… كان ذلك زمنا مضيئا، لم تكن الظلمات والعسس الا لمن كان يعرف بالشعبة الثانية، سقى الله تلك الايام. فلا عبوس ولا قنوط ولا تجهم يمنعك من النقد أو يقطع عليك طريق التشاور، و يقيم حدا فاصلا ما بينك وبين الاخرين. فلا تصنيف مسبق، بل لا بد أن تكون في متناول الجميع عاملا على كسب الجميع.

الواثقون بدمهم
• التيار اليساري الوطني النخبوي انتقل الى حضن التاريخ مع عودة جثمان شهيد جبهة المقاومة الوطنية يونس رضا على يد رجال المقاومة الاسلامية. هل أنت حزين لذلك أم فرح لوراثة إستكملت الطريق؟

وعلى غير ما هي الحالة اليوم من "عائلات" و"عوائل" و"عيل" تقيم قوائم الشطب أسوارا عالية بين افرادها، وتقيم العصبية الحزبية الضيقة لواء العلاقات الذي لا يُظلل إلاّ ذوي القامات القصيرة. في تلك القرى المتسعة والتي انبتت قامات وقامات، وما زالت تنبت من هم في سعة الافق فكرا وجهادا ومقاومة وحسن انتماء… لكن شاء من شاء_ وبعضهم عن سابق اصرار_ ان يجعل في قرانا اوتادا تربط اليها دواجن الانتخابات التي تُعلف بالنفوذ والوظائف وانواع الخدمات التي ترى بالعين المجردة…إلاّ ان لهذا الجنوب أوتادا من شهداء، لا وجوه ولا أسماء ولا عناوين لهم.

تسأل: من حفر الخنادق الاولى، من الذي جرح، من الذي درّب وبكثير من صدق نقول: "ثلة" من الأولين وقليل من الآخرين". ولي في اسرتي اكثر من شهيد استعادته المقاومة الاسلامية الوطنية: يونس رضا، علي رضا، لم يكونا آخر العائدين. أيضا هما ليسا اول الذين وثقوا بدمهم بيننا، وكثيرون ممن في ظهرانينا باتوا الآن لا يثقون إلاّ بدمهم.

ما زال لنا مع العدو الاسرائيلي ثارات،… وما يعنيني في مجال الصراع هذا ذلك المقاوم الحي الذي لا يعرف انه أجمل ما في هذا الجنوب،… اتركوه واكتموا جماله في قلوبكم…أحبوه ولا تبهرجوه، بل لا تغروه بحلاوات ساحاتكم.

• قصائدك لم تجمع وتنشر في كتاب الى الان لماذا؟
لم أجمع ما كتبت ولم أنشر الا متفرقات.. تأخذنا الحياة الى حيث لا نشتهي، التعليم والإلتزامات الأسرية وعدم المحاباة. ولأنني وأمثالي لا نستظل إلا قيمنا، فإني لم أجد مظلة تقيني حمى عرق العيش، وأنفت أن أقيم في غير ظلّ قامتي التي بدأت التي تتقوس انكسارا.

الراحل موسى شعيب
• ما هي روافد نصك الابداعي؟

سأكون صريحا، اول من كان من شعراء الجنوب ومن حمل همّ الجنوب لغة ورموزا ومفاتيح تعبيرية لا تشي إلا بقرى الجنوب هو الشاعر الراحل موسى شعيب. جميعهم سكنوا في ظلال رايته الأولى التي أدخلها الى كليّة الاداب يوم كانت زينة الشعر عبارات مستفادة من فؤاد الخشن أو من سعيد عقل أو من نزار قباني… سُمع صوت جديد فاز لغير مرة بجوائز كلية الاداب، بعدها بزمن أطلّ شعراء كلية التربية يزينون قصائدهم( بقندول) و(طيّون) و( ومعالف بقرات) موسى شعيب… ولقد زامله الشاعر الكبير محمد علي شمس الدين، ومن حسن حظي انني تتلمذت عليهما في مدارس بيروت وكنت على مقربة من قصائدهم وعلى صدى صوت من قراءة قصائدهم التي كانت تأتيني طازجة من تنّور الابداع.

ثقافة الأزمنة والمواسم
• ما سرّ غيابك عن رابطة شعراء الجنوب، وانت رفيقهم وزميلهم؟

كثيرون هم شعراء الجنوب، أصدقاء في الشعر وفي العيش. ولكنني والحقيقة لامعة في مسألة هؤلاء الشعراء، فهم اليوم شعراء العالم العربي، فما قولك مثلا بالشاعر شمس الدين، والشاعر شوقي بزيع، وأيقونات الشاعر الياس لحود، ثم شعراء سلالة آل عبدالله، ومنهم حسن عبدالله، ذلك الذي تذكر أنه أحب، ثم استراح على ضفاف باذنجان الدردارة ومن جمالية شعره أنه لا يتذكر انه شاعر، وتلك حالة شعرية تامة تنأى بنفسها عن مواقيت الباذنجان أو القمح أو الخيار التي تصرّ أن تطلّ علينا كل عام في مواقيت محددة – اذ بعضهم يُصرّ على ان يذكرنا بأنه الشاعر بأن يصدر موسميا كتابا سنويا. اما حسن عبدالله فهو الشاعر الذي تضيع بين يديه الازمنة والمواسم، وتلك حالة خاصة لها الشعر كل الشعر.

• لماذا حصرت ابداعك بالرثاء وهل ان التعليم استنفذ وقتك وجهدك؟

في تذكري لمن عبر من أصدقاء، وأنا افضّل ألا استعمل كلمة رثاء في هذا الموقف، لانني ما ذكرت إلاّ الحياة وما كتبت إلاّ عن الحياة المضيئة فيهم، فأنا أحببت وخسرت من أحببت… يقيمون معي في مساحة العمر الاتية، اذ لم يرحلوا، وأنا لم ابق بعدهم "مثل السيف فردا" – ما اصطنعت قولا، ما قلته صفحة من صفحات قريتنا وقرى الجنوب، تلك الوجوه التي رحلت هي كتاب عيشنا، هذا اذا ما أُتيح لنا عيش فيه حرف رغيد.

• بمن تأثرت من الشعراء العرب بشكل عام واللبنانيين بشكل خاص؟

الأسرة، وذلك ما أصرّ عليه، كانت المؤثر الأول في مجال الكتابة الأدبية، لكنني أعرف الان أن ما جعلني أسعى إلى ضفاف جماليات الادب، إلى الأصول: المتنبي، ابو تمام، الشعر الجاهلي. ومن اللبنانيين معمارية سعيد عقل، وريفية أمين نخلة، ولمحة الشعر الذكيّة عند حسن عبدالله وبشارة الخوري، والسيد محمد حسين فضل الله، وصوفية محمد علي شمس الدين، وغنائية شوقي بزيع، وموسى شعيب الذي كان له سبق تحديد البوصلة جنوبا. ولربما سقط من ذاكرة الناس الذين احبوه شاعرا وانسانا.

قطيعة ما بين الأجيال المتعاقبة

• بماذا تصف حال جيل اليوم مع الشعر والثقافة؟

المشكلة اننا اليوم نقف مكتوفي الأيدي، والسؤال كبير… هل هي قطيعة ما بين الاجيال المتعاقبة؟ ولربما ماثل ذلك شأن السلطات العربية أو الاحزاب أو القيادات التاريخية التي لم تستطع إعادة انتاج كوادر جديدة تتابع ما بعدها.
الأدب_ على حد معرفتي الكلاسيكية_ هو ابن الريف. وهناك قطيعة ما بين أبنائنا والريف كما لم يعد هناك من قرى، وبالتالي لا يمكن لابنائنا الذين نشأوا في غيره أن يتهجأوا حروفه الشعرية التي امحت مع آخر ساقية، او آخر زهرة برية، بل قل آخر قفير نحل كان إلى جانب باب الدار في طفولتنا وشبابنا.

كيف نعيدهم الى شعر الريف، وقد ذهبت أبجديته الى مفاتيح الكمبيوتر وشاشات العلاقات العنكبوتية التي صارت قصيدة العصر العصية على التجاهل أو التنكّب عن دورها في الخلق والابداع.

السابق
الإليزيه: يجب اتهام مسؤولين سوريين
التالي
خطوة السفيرين في سوريا هروب إلى الأمام!