هنا الدولة أقل وجوداً ولا أثر للثقافة إلا في سياستها

في حديقة الفندق الكولونيالي، الذي ما زال جميع الجزائريين يسمونه "السان جورج" رغم انه منذ انتصار الثورة بات اسمه الرسمي "فندق الجزائر"، كنا سوية: كاتبة لبنانية مقيمة في باريس وكاتبة كردية سورية مقيمة في سويسرا، وشاعر بحريني وأنا الآتي من بيروت، لا نحيد بكلامنا عما يحدث في أرياف سورية ومدنها وما يحدث في المنامة وما حدث في بيروت قبل سنوات، وما أنجز للتو في تونس والقاهرة، أو ما زال جارياً في ليبيا واليمن.
على تلك الطاولة الصيفية لم تمر جملة واحدة عن الكتابة الروائية ولا عن التجارب الشعرية المستجدة ولا عن القراءات أو عن السجالات الأدبية. لم يعبر بيننا رأي في ندوة من ندوات المهرجان الثقافي الذي نشترك فيه، ولا أدلى أحدنا بفكرة لها صلة بالأدب أو بالفن. كنا، هكذا، نستأنف ما كنا فيه ببلادنا قبل مجيئنا إلى "المهرجان الثقافي الدولي" في الجزائر، أي نستأنف متابعتنا وانهمامنا بالحراك السياسي الاستثنائي، الثوري، الذي يضرب العالم العربي من حدوده الأطلسية الى شواطئ الخليج العربي و"المتوسط" و"الأحمر".
الطاولة الأخرى التي تضم صحافيا لبنانيا "ممانعا" (و"حداثوياً") وكتابا شبانا من تونس والجزائر، كانت أيضاً منهمكة في الحديث السياسي، مع كلمات وعبارات توحي بأنها تتعلق بخطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله الذي تحدث فيه عن اكتشاف الجواسيس داخل حزبه. وهو الخطاب الذي كنت قد قرأته على الانترنت قبل دقائق من انضمامي الى حلقة الأصدقاء في الحديقة.
المهرجان الذي جمع كتاباً ومثقفين من أنحاء العالم العربي ومن أماكن قصية من العالم (كتابا من هايتي والمكسيك وفرنسا..) لم يُفلح كثيراً في إرجاعنا الى بيئة الأدب وهموم الكتابة "الإبداعية"، ولا في توريطنا بلغة الثقافة الاحترافية، كأن ننشغل بعناوين من نوع "الالتزام في الأدب" و"أسئلة الأدب الافريقي". بل إننا في اجتماعنا هذا، رحنا نهمل الكتاب الأجانب وننساق عفوياً الى التجمع ككتاب "عرب" لديهم الآن ما هو خاص بهم وبهواجسهم. نتحرى مواقف بعضنا البعض. من هو "المتردد" ومن هو الذي ما زال "مسايراً للسلطة"، ومن هو "الناشط" ومن الذي اتخذ الموقف الواضح أو الملتبس أو المتخاذل. كنا نعيد رسم خارطة التقدير والاعجاب او الاستياء او الاستخفاف تجاه الكتاب الآخرين لا وفق قامتهم الأدبية ولا حسب انجازهم للنصوص والكتب، بل على أساس رأيهم السياسي وموقفهم المعلن. فالظاهر اليوم أن أغلب الأدباء والروائيين والشعراء تحولوا الى كتاب مقالات سياسية في موضوعة واحدة "الثورات العربية" ومن سكت عن ذلك أو امتنع عن رأي، بات الآن موضع شبهة وارتياب. يكفي لذلك أن يكتب تعليقاً على الفيسبوك، أو أن يشارك في اعتصام، او يضع توقيعه الشخصي على بيان تضامني، رفعاً للتهمة.
هناك، في الجزائر، سنمشي شلة من الكتاب العرب في شوارع العاصمة واسواقها. وطوال كيلومترات مسيرنا، نستعيد المرة تلو الأخرى كل ما أختبرناه من مشاعر وما حفظناه من شعارات وصور وأصوات وأحداث أثناء الثورات. سيقول لي الروائي المصري الشاب المقيم في لندن كيف عايش يوميات ميدان التحرير لحظة بلحظة، وستسرد الكاتبة الجزائرية تلك المحاولات التي لم تكتمل في ساحات الجزائر، وعيشها التلفزيوني لما كان يحدث في الدولة المجاورة، تونس. كيلومترات من الذكريات الحية والطازجة نتمرن على تظهيرها كلاماً وتأويلاً، لنبرهن لبعضنا البعض كيف بتنا هكذا "عرباً" من جديد، من غير شك، المهاجرون منا أو المقيمون في أوطانهم.
كنا مأخوذين ومبتهجين بحالنا، فها نحن نقرأ في صحفنا الأخبار ذاتها، ونتابع الفضائيات التلفزيونية ذاتها حصراً ونفتح على الانترنت المواقع نفسها بالضبط، بل أننا "توحدنا" ليس في صداقاتنا القديمة القائمة على معرفة اسماء بعضنا البعض وعلى معرفة وقراءة نصوص بعضنا البعض، بل بصداقتنا الحقيقية اليومية التي نداوم عليها في الفضاء الافتراضي عبر "الفيسبوك" خصوصاً، بتنا في حال "وحدوية" قائمة على أواصر التضامن مع تلك الأفكار والأحداث الطالعة من الشوارع والميادين والساحات العربية، نبتهج ببعضنا البعض أيضاً، لأننا نكتشف ان تلك "المراجعات" الذاتية التي أجراها كل واحد منا بمفرده، ها هي متشابهة ومتوافقة بيننا جميعاً، اذ صرنا اقل "انعزالية" عن الثقافة الشعبية مثلا وأكثر تسامحاً مع مظاهر "التدين" واقل خوفاً من المجتمع الأهلي وأكثر تفهما للغرب وللعالم، صرنا نميل لـ "التصالح" مع الموروث ونستحسن "العفوية"، مبتعدين عن الثنائيات، متقبلين لحقيقة التناقضات وكثرتها وكنا نبث فيما بيننا تلك الاشارات والعبارات التي تدل على تلك القناعات، الغائمة والفضفاضة، لنمتحن عن ثقة ما نحن متفاهمون عليه، من دون أي ميل لأدلجة صلبة، طالما أننا كنا محتفين بتلك الخفة "الثورية" المأخوذين بها، متجنبين أي جدة فكرية أو حذر نقدي غير مرغوب فيهما راهناً.
طرأ تبدل هائل على المزاج الثقافي العربي، فالمهرجان الجزائري، وبوصفه جزائرياً، تجنب بوضوح في عناوينه وأنشطته كل ما قد يتصل بالثورات العربية. لكن الذي حدث أن الذين ساهموا في المهرجان لم يكن بوسعهم هذا التجنب. فمثلاً ان كانت الندوة عن اداء الصفحات الثقافية في الصحف العربية وعلاقتها بالنقد والأدب، كان حديث الندوة بمجمله عن ان الصفحات الثقافية لا يمكن لها ان تكون حقاً "ثقافية" من غير مساهمتها في سجال الثورة والقمع، وسجال الحرية والاستبداد، كذلك مثلا في ندوة "الرواية والتاريخ" حيث لم يفلح المشاركون سوى في التوكيد على "مسؤولية" الأدب في كيفية تدوين التاريخ، الذي يحضر الآن وهنا في العالم العربي.
يمكن القول، بداهة، ان الثورات العربية لا تسقط "الأنظمة" فحسب، انها تضرب تحولاً عميقاً في الثقافة واللغة والأفكار، تكشف لنا صنمية نمط من المثقفين، وديناميكية آخرين، تفضح "انتهاء صلاحية" خطاب فكري ثقافي، وتبتكر آخر ما زال غامضاً لكن شديد الجاذبية والصدق والعفوية، فجأة تتبين رطانة ذاك الطليعي، وسلطوية ذاك الحداثوي، ورجعية ذاك التجريبي، فجأة تتكشف أوجه الشبه بين "منظومة" ثقافية سائدة هنا و"نظام" سياسي مستبد هناك. أوجه شبه في التعالي والانكار والانفصال عن كل واقع، وفي العناد الأعمى وفي الاحتقار المتأصل للجمهور والرأي العام والشارع وللرجل العادي (المواطن).
التبدل الذي لم نفقه بعد أبعاده وعمقه وآفاقه نراه في المفردات والحساسية، نلحظه في هذا الانحياز لـ"الشباب"، لهذا التحول من موضة "نقد التكنولوجيا والعولمة" الى المديح المتواصل لفوائد التكنولوجيا والعولمة والتلفزيون والانترنت والشغف بكل الوسائط الجديدة: آي باد، آي فون، بلاك بيري، الخلوي، اللاب توب"، تبدل اشبه بالانقلاب في المصطلحات والمفاهيم والمرجعيات الفكرية كما في الكلام والسلوك والتعبير.
في الجزائر ما من ثورة، مع ذلك كنا هناك نستشعر بأفاعيل الثورات وآثارها. اذ نحن الذين كنا قد زرنا الجزائر من قبل، استطعنا ان نلحظ كيف تبدل الفضاء العام وتعبيرات الوجوه وإيقاع الحياة وسيمياء المكان، هذه المرة بدت الدولة أقل تواجداً، بل وكأنها مصابة بالخجل، متوارية، تحاول ان تخفف حضورها في الشارع، أن تتجنب أي سبب للاستفزاز، اي علة لحادثة. شرطة أقل، حواجز أمنية نادرة، صور رسمية بالكاد موزعة هنا أو هناك. السلطة لا تريد ان يراها أو ينتبه لها أحد. سلطة "تمنح" بصمت ـ وقسراً ـ حرية للمدينة، حرية للناس في كلامهم وحراكهم وفوضاهم. سلطة تقلل من وزنها ومن ظلها، خوفاً من أي "شرارة" قد تنبعث من صدام بين شرطي وسائق سيارة، بين رجل أمن وبائع متجول.. سلطة تخاف حقاً من المواطنين، تتحسس رأسها في كل يوم، فزعاً من عدوى الثورة. وهذا ربما قد نراه في أي بلد عربي هذه الايام.
هناك، تحت النصب التذكاري، الاسمنتي الهائل، نصب شهداء الثورة الجزائرية، كان "المهرجان العالمي للثقافة وكتاب الشباب"، مع الندوات والحفلات الموسيقية والأمسيات الشعرية وأجنحة بيع الكتب، كنا سوية كتاباً عرباً غير مقاربين "الثقافة" الا بوصفها سياسة، وممتنعين عن "الأدب" الا بوصفه سؤالاً عن الحرية.

السابق
الاسلام النسوي: المرأة نواة “التخصيب” الجديد لصناديق الاقتراع
التالي
غاي: التعاون أكيد مع الحكومة وعليها التزام المحكمة