ايران المتنازعة بين رئيس غيبي ومرشد «رهبر»

بينما يكابد العرب صراع الإصلاح بالدم المسفوح، أملاً في تقليص عدد الرؤساء مدى الحياة، وانزالهم من مرتبة قدسية لا تمس، الى مرتبة موظفي خدمة عامة، تندلع في الجارة ايران مشاحنات سياسية لفظية واجرائية، في الاطار نفسه. وبينما يدور الصراع في الحاضنة العربية باسم مطالب دنيوية، اطلاق الحريات، دستور جديد، صحافة حرة، تعدد احزاب، رئاسة لدورتين الخ…، يجري التنازع في الحاضنة الايرانية باسم المقدس.

ورغم ان المشاحنات والتوترات لا تتعلق بالشريعة، والشعائر، والطقوس، والمقولات الفقهية عن الإمامة والولاية، بل تتصل بالتنافس على السلطة الدنيوية، وحماية المقربين، وحفظ مراكز القوة، فان التمثلات الفكرية لهذه التوترات مترعة بالرموز الدينية.

ابتداء، الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد، المهندس، القروي المنشأ، الطالع من صفوف الادارة البلدية، من جيل الحرس الثوري، وجد نفسه، شأن سابقيه من الرؤساء، أسير نظام سياسي مغلق، يستمد قدرته وشرعيته من المرشد (رهبر)، ممثل السلطة المطلقة الدنيوية والقدسية، بلا منازع، والمالك لزمام تفسير الشريعة.

الرؤساء قبل أحمدي نجاد انتهوا الى لا شيء. فبني صدر هرب بطائرة رئاسية الى فرنسا لينجو بجلده، ورجائي تمزق اربا في عمل ارهابي، ورفسنجاني انزوى في مجلس تشخيص المصــلحة بلا صلاحيات تذكر، ومحمد خاتمي الحداثي- المثقف الوحيد في هذا الرهط – حبيس الاقامة الجبرية راهناً، وهو المرشح الذي صعد رغماً عن المؤسسة الرسمية.

أحمدي نجاد مدين لصعوده الاول لهذه المؤسسة. ومدين لها باستمراره في ولاية ثانية، المؤسسة التي تسترت على اوسع عمليات تزوير انتخابية في تاريخ المنطقة (اعترف احد المسؤولين بوجود 3 ملايين صوت مزور، لكنه اضاف ان ذلك «لا يغير من النتيجة»).

لن ينسى المراقبون القبلات التي طبعها أحمدي نجاد على يد المرشد (رهبر) بعد حسم معركة الاحتجاج، ولا ابتسامة الرضى التي ارتســمت على وجــه المرشد امام اعتراف الرئيس بأفضاله. ليس للرئيس في ايران ايما شرعية، عدا الشرعية المنتصبة خارجه. وامام هذا الخواء الدنيوي ابتكر لنفسه، او تشجع على ان يبتكر، شرعية من نوع خاص، هي صلة الوصل بالإمــام المـهدي، الإمام الغائب، المنتظر.

بغتة بات الرئيس يرى انواراً طافحة من حوله، ويسمع اصواتاً غيبية تناديه بقرب ظهور الغائب، قرباً وشيكاً، حتى انه ابتنى أكبر فندق في طهران، كما يقال، استعداداً لهذا القدوم الوشيك. كما اجرى مناورات عسكرية واسعة للحرس الثوري في اطار الاستعداد نفسه. بل ان سقوط صدام، ثمرة الغزو الاميركي، تحول الى جزء من الانقلاب الغيبي الوشيك! في خطابات عديدة، استمع الجمهور الايراني الى رئيسهم وهو يلهج بهــذه الصــلة النادرة بعوالم الغيوب.

ولا ريب في ان الجمهرة التي التقاها في الارياف والبلدات الريفية، مجاله الاثير، أحبت الاستماع الى هذه الادعاءات. فالاموال التي فرقها الرئيس عليهم (من الخزينة العامة) بدت بمثابة دفعة على الحساب، بانتظار الوعد اليوتوبي الاكبر، وعد الجنة الارضية. فمجيء الامام، في التقاليد المعروفة، يحمل رمزية الخلاص الارضي من البؤس، والانتقال الــى فردوس خالص هنا الان.

ولهذا الوعد وجوه أخرى تتصل بالسلطة الاكليروسية، فسلطة الإمام الغائب، تتجاوز كل السلطات الاخرى، بل تكتسحها وتحيلها رماداً. فما قيمة (رهبر) بازاء امام منتظر؟ وحين يظهر أحمدي نجاد بمثابة صلة وصل مع الإمام، بل جنرال مقدام في جيشه، (كما قيل عن فيلم ايراني يصوره بهذه الصفة)، فان سلطته، كتابع مخلص ستتجاوز بالتبعية السلطة الاكليروسية الراهنة.

زد على ذلك ان الــمرويات الشعبية تفيد ان رجــال الــدين هم اول من يتـــعرض لحساب عسير، في عهــد الظهــور. هذه الموتــيفات جمــيعا هي موتيــفات سلـــطوية، يــطرب لــها الرئيــس ويتجــهم لهــا الفــقهاء، وبخـــاصة فــقهاء الســلطـة.

لم يكن اذاً من باب المصادفة ان يعمد الرئيس الى العناية بمسجد جمكران (جنوب شرق قم) ويتخذه مزاراً، بل يشجع أتباعه ومريديه الانتخابيين على التوجه الى هذا المسجد رمزا لليوتوبيا القادمة، نظرا لان المرويات التراثية تفيد ان هذا المسجد شيد بالاصل بأمر من الامام المهدي، ما يجعله «بقعة شريفة»، مر بها الخضر، وتلا فيها آيات من القرآن الكريم.

صناعة هذه الرمزية الدينية، مقصودة، ومرسومة، لرئيس محدود الصلاحيات بازاء سلطة مطلقة للمرشد (رهبر). فالمرشد في ايام الخميني كان عرضة لرأي دنيوي اسمه الانتخابات. بعد وفاته حصر رأي اختياره بمجلس خبراء، وهذا المجلس كان ثمرة اجراءات حديثة: التصويت، اما اليوم فالمجلس لم يحظ بأي تجديد انتخابي. كمــا ان الــمرشــد ماكث في موقعه زعيــماً وقائداً مدى الحــياة. ازاء هذه المتــانة في الموقع المدعمة بصلاحيات واسعة، لا بد للرئيس من ان يستنجد بالمقدس رمزياً، وان يشتري رضى القـــرويــين بأموال الدولة، وان يقدم مقاولات بالبلايين الى الحرس الثوري لنيل رضاه، وان يبدي، هنا وهناك، عناداً ازاء راعيه الاكبر.

في المعركة المضادة، لا يجد خصوم الرئيس من سلاح رمزي- فكري غير تهمة «الانحراف» وهي بعيدة عن لغة الفقه من: فساد، كفر، زندقة، وقريبة قرباً مدهشاً من مفهوم «التحريفية» الذي ابتلينا به زمنا. نقاط ضعف نجاد كثيرة، ولن تتيح له تجاوز المركز.

لكن له نقطة قوة واحدة: ليس لهذا المركز ترف المجازفة بإقالة الرئيس وإيجاد فراغ رئاسي، تليه انتخابات مبكرة. لكن للمعركة معنى اكبر من هذا كله.

صراع المؤسسات الدنيوية بازاء المؤسسة الدينية، الممسكة بكل عتلات السلطة، وهو بهذا المعنى يشبه الصراع الدائر في العالم العربي، النزاع الى الحد من السلطة المطلقة، نزع ديمومتها المقدسة، وانزالها الى مرتبة اليومي والعادي، المدنس بكل الاهواء باعتبارها وظيفة عامة قابلة للاحلال والابدال.

السابق
نقد تقويمي مبكر للمعارضة السورية
التالي
أسطول الحرية: المنجز المتحقق قبل الفصل الأخير!