دعــوة إلى المصالحة

صدر القرار الاتهامي للمحكمة الخاصة بلبنان للتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه. وكان كثيرون يتوقعون ردات فعل سريعة على الأرض، ويقلقون من نتائجها، من قبل الطرفين المعنيين. الطرف الذي اعتبر أنه نجح في خيار العدالة وصدور قرار المحكمة واتهام مجموعة من اللبنانيين بتنفيذ الجريمة، أو من قبل الفريق الذي يرفض هذا الاتهام أصلاً، ولا يعترف بالمحكمة أساساً.

تبدد القلق والخوف حتى الآن. السبب، مواقف القوى الأساسية المعنية مباشرة أو غير مباشرة بالقرار المذكور. مواقف أكدت الدعوة إلى الاستقرار. لا عنف. لن تكون فتنة. لن يكون خلاف في الشارع.

بعد ذلك، كانت المناقشات في المجلس النيابي للبيان الوزاري. رغم سخونة المواقف والكلام العالي، بقي الجميع تحت سقف الالتزام بالتهدئة. ونالت الحكومة الثقة بأصوات قليلة جداً كرسّت أكثرية. لكن هذا المشهد لا يلغي وجود أزمة. بل على العكس من ذلك. المشهد يغطي أزمة خطيرة في البلاد. أزمة ثقة بين فريقين كبيرين في البلاد. العمود الفقري في الأول يتقدم باسم الطائفة الشيعية الكريمة والعمود الفقري في الثاني يتقدّم باسم الطائفة السُنية الكريمة. حول هذا وذاك حلفاء أو أصدقاء أو أتباع. وبينهما فريق أو شخصيات تدرك خطر هذا الاصطفاف، وبالتالي تحاول لملمة الوضع واختلاق أفكار أو مبادرات لاختراق جدار الأزمات والاحتقانات والأحقاد والاتهامات والاحتمالات السلبية التي تلوح في الأفق.

نعم، هذه هي الحقيقة. نستطيع أن نقول ما نشاء في المجلس النيابي أو في مجلس الوزراء، أو في الإعلام، نستطيع أن نرفع الصوت. وأن نقدم القرائن والعناصر التي تعزز منطقنا ولكن ما هي النتيجة حتى الآن؟ المزيد من الانقسام. المزيد من الخلاف. المزيد من العوامل التي تعمق أزمة الثقة. وهذا يؤدي إلى مزيد من القلق والخوف على المصير.

والذين يتحدثون عن انتخابات وينتظرونها في 2013، وهذا حق مشروع لهم في أي موقع كانوا، لا يعرفون الآن كيف سنصل إلى هذا الاستحقاق. ماذا سيجري حولنا؟ ماذا سيحصل في لبنان؟ وكيف ستكون الأمور؟ وأي حكومة ستكون موجودة؟ وأي قانون انتخابات سيكون؟ وعلى أي أساس ستجرى الانتخابات. ومع ذلك، حتى لو ذهبنا إلى الانتخابات ونتج عنها أكثرية بأصوات قليلة كما قلت، لن تكون نتائجها حلاً. سيبقى الانقسام. سيبقى الخلاف عميقاً. وستزداد الأحقاد والله أعلم في أي حال سنكون.
في كل حال، الخطير أننا نفّوت كل الفرص. بل لا نبحث عن فرص، نهدر الفرص. اليوم، الأخطر أننا لا نطرح فكرة، لا نرى وسطاء حتى يطرحون أفكاراً لترميم علاقة قبل كسرها نهائياً وانهيار البلد على الجميع.

هذا يحدثك عن ضغوط دولية على لبنان، بل عن عقوبات، وكأنه لا يدرك أن حصول هذا الأمر هو عقاب لكل اللبنانيين. لكل الفقراء، لا سيما منهم الفقراء الذين يمثلهم، وذاك يحدثك عن التغيير والمحاسبة، ويبتعد في الوقت ذاته عن المس بأقرب الناس. ويحدثك عن الدولة وهو يدمرها بطريقة أو بأخرى مثل الآخر.ويحدثك عن قطع تذاكر سفر لقادة أساسيين في البلاد في الجو أو البحر كأن المطلوب التخلص من "إرث" كما يقولون، ومن الأموات الشهداء، ومن الذكرى، وهذا أمر مستحيل، أو التخلص من الأحياء الشهود أو الشهداء، وهذا نَفَسٌ خطير، لا يكرس وحدة وانتماء وقوة للبلد، بل يشكل عبئاً على البلد…

هذه صورة مختصرة عما يجري وسيجري. القائم خطير، أما المقبل فأخطر. وكيف إذا كنا نتطلع إلى الاستهدافات الخارجية للبلد. ينطبق علينا القول كأطراف عموماً وكأشخاص خصوصاً باستثناء قلة قليلة جداً من الناس: لا نعرف كيف نربح ولا نعرف كيف نخسر…

الذي ربح يفرط بإدارته بطريقة أو بأخرى بانتصاره. والذي خسر لا يعرف كيف يخسر، بل يذهب في اندفاعه أكثر نحو مزيد من التحدي والتعبئة والهروب إلى الأمام.
لقد كان استقرار لبنان ملازماً لمعادلات إقليمية ودولية، وكان ثمة رعاية دائمة له. لذلك يزداد الوضع صعوبة اليوم في ظل التوترات والمتغيرات المتسارعة حولنا، والتجاذبات وكأننا أمام خريطة جديدة لكل المنطقة. فكيف يحمي لبنان نفسه منها؟

التسويات في لبنان التي هي قدره كانت تنتج من رحم اتفاقات وتسوية ومعادلات وظروف أقلية ودولية. لا نراها اليوم قريبة، لا نرى احتمالها قريباً، لأن هذه الظروف ليست ملائمة. هي ظروف تصادم بطرق مختلفة إلى أن تتوافر ظروف التفاهم. ماذا نفعل خلال هذه المرحلة الفاصلة بين التصادم والتفاهم؟ هل نكون ساحة مفتوحة لتبادل الرسائل؟ هل نهيء الأجواء لتصادم على أرضنا يضعفنا أو تفاهم بين الآخرين على حسابنا؟ التجارب علمتنا خطورة مثل هذا التصرف وإنعكاسه السلبي على كل اللبنانيين وأمنهم وسلامهم ومصالحهم، ثم بعد ذلك كانت عودات إلى تفاهمات وتسويات لا تستحق هذه الأثمان ولا تعمّر!

لذلك أقول وربما من خارج سياق الخطاب السياسي الحالي، لبنان محكوم بالتسوية والمصالحة. قد يكون الكلام غريباً خصوصاً بعد أيام من نيل الحكومة ثقة ونحن نشارك فيها. لكن هذه هي الحقيقة والبوصلة، التي يجب أن تحكم مسار حركتنا. وخارج هذا المسار، سنكون أمام مشكلة كبيرة. ولا يمكن في مثل هذه الحالة أن يخرج لبنان منها سالماً معافى.

نعم، من قلب دائرة الأزمة تنطلق الدعوة إلى المصالحة ويجب أن ينطلق العمل منها…هذا ما يجب أن نسعى إليه.

السابق
لغتنا الجميلة
التالي
عروس تجمع تكاليف عرسها عبر… تويتر