سعيد الصباح يجمع “طرائف” لتتسّع مساحة الأهل

 تطلّ من عينيه الهادئتين براءة جامحة، تعكس صدًى صارخاً لروحه الوادعة المصقولة بحنكة ودراية عميقتين ظاهرتين بوضوح على محيّا الكاتب سعيد الصَّباح، فكتابه الذي يجمع النوادر والطرائف والمرويات الشعبية (شعراً ونثراً) كجزء من التراث الشعبي للنبطية ومحيطها. والصادر حديثاً عن دار بلال تحت عنوان "طرائف بنطانية" قد وضعه "لإشاعة البهجة والسرور في نفس القارئ". وهذا ما يُبنئ أنه عمل ناتج عن سليقة متأصلة لدى الصبَّاح، لا عن مجرد هواية عابرة له أو مزاج طارئ فحسب، هنا إطلالة على سيرته ومؤلفه الذي نحن بصدده في هذه المقابلة:
النشأة
* نود أن تحدثنا عن ظروف النشأة؟
– ولدت في النبطية، كبرى حواضر جبل عامل. امتازت هذه الحاضرة بكونها محطةً للقوافل وسوقاً كبيراً لتبادل البضائع والبيع والشراء. فمن الطبيعي أن تمتاز بالانفتاح على الحركات السياسية والثقافية والأدبية المستنيرة. وأن تكون الحاضنة للنضالات الوطنية والقومية والواحة الغناء التي ترعرع في أفيائها أعلام الدين والوطنية والشعر والأدب والطرافة ومجالس الأنس.
في هذه الأجواء أبصرتُ النور، وترعرعت. كانت ملحمة الاستشهاد الكربلائية حاضرة في تكون وعيي، وكذلك كانت المأساة الفلسطينية مدعاة لألم اعتصر أعماق نفسي، ومدعاة لطرح سؤال، عن كيفية انتصار الباطل على الحق؟
وفي يفاعتي تسنى لي تلقي العلوم الابتدائية في مدرسة الأميركان" بنمط تدريسها الحديث، ومرافقة لوالد مخضرم، حضر مجالس كبار الساسة والأدباء والشعراء والظرفاء، ناهيك برجال الدين الورعاء وكانت المحطة الثانية في حياتي يوم انتقلت إلى بيروت في العام 1957، ومحطة ثالثة في حياتي يوم دخولي إلى كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، اعتباراً من العام الدراسي 1963 – 1964، وبعدها، زمن الوظيفة في الضمان الاجتماعي.

وكان انخراطي المبكر في النضال القومي منذ الصِّغر، بقدر إطلاعي على التراث العربي – الإسلامي وغوصي في بحره الزاخر بالإبداعات، وثقفت ذاتي بالثقافة المعاصرة العربية منها والأجنبية.

الكاتب
* وماذا عن عطائكم القلمي؟
– كنت في المرحلة الابتدائية، متميزاً بين أترابي في الإنشاء العربي النثري، وفي نظم الشعر باللغة الإنكليزية وبدأت كتاباتي الصحافية في العام 1964، في جريدة متواضعة اسمها "الناس" ولاحقاً في "ملحق النهار". وكذلك في جريدة "النهار" وفي جريدة "السفير".
المؤلف الأول الذي نُشر لي، هو كتاب عن قريبي العالِم المخترع حسن كامل الصَّباح، وهو "حسن كامل الصَّباح: عالِمٌ من لبنان"، ومؤلّفي الثاني "أصدقاء"، الصادر عام 1995، وهو من نمط الأدب الساخر، وصدرت لي مجموعتي الشعرية الأولى "خفقات قلب" في سنة 1999 ومجموعة ثانية "ضوع الحنين" عام 2001، وأخيراً كتاب "طرائف نبطانية" في سنة 2009.

ذخيرة من الطرف
* "طرائف نبطانية" تفيض مقدمته باحتفاء واضح بالماضي الجميل، كما تسميه، هل الاحتفاء بالماضي هو رفض للحاضر؟ أم محاولة لإغنائه؟
– في المقدمة، حنين إلى الماضي الجميل، كما وصفته، لكني لا أفهم جماليته كمطلق خالٍ من السلبيات، وهي كثيرة، ولا يمكن أن أنظر إليه بقداسة، فأنطلق إلى رفض للحاضر المعيوش، ووضع جدار صيني بينهما، وعندما يفكر المرء وفقاً لهذه المعادلة، فإنه يصاب بـ"بارانويا" ماضوية مخالفة لبديهات علم التاريخ؛ وبالتالي، لا يوجد سور صيني يفصل ماضينا عن حاضرنا، والأخير عن المستقبل، فهناك استمرارية لا تنفصم عراها بين هذه "الأحيان".
فبذلت الجهد لكي أسلط الضوء على ما هو طريف من ماضينا في حاضرة النبطية والبعض من جوارها. كي يفرح معايشو الحاضر التي سيمسَّى ماضياً، بعدما كان مستقبلاً، تلك سنة الحياة ونواميس تطورها، فأغني الحاضر بذخيرة من الطرف، لتبقى مساحة الأمل ساكنة في نفوسنا القلقة.
* يفيد مضمون الكتاب، أنه يندرج في دائرة ما يعرف بالأدب الساخر، كيف ترى إلى موقع هذا الأدب في عالم اليوم؟
– استميحكم عذراً للعودة إلى ماضينا الحافل بالأدب الساخر، منذ العصر العباسي، فالجاحظ في "البخلاء" والأبشيهي في "المستطرف في كل فن مستظرف" وأتذكر كتابات الأديب الكبير إبراهيم عبد القادر المازني، والصحافي الأديب محمود السعدني، و"حنكشيات" نجيب حنكش، ولا ننسى الكتابات الإبداعية للأديب القومي الاجتماعي سعيد تقي الدين.
حاضراً، وحسب معرفتي المتواضعة، لا يوجد كتابات متميزة خاضت في لُجَّة الأدب الساخر، وقد أكون مخطئاً، فعذراً في حال النسيان ألم يرد في الذكر الحكيم ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.

إبداع شعبي
* يجمع هذا الكتاب شيئاً من التراث الشعبي الجنوبي، كفولكلور يجب أن يبقى حياً في الذاكرة؟ برأيكم: لماذا يظلّ الفولكلور: موضوعياً، طيّعاً، وبالتالي مستساغاً باستمرار؟
– بادئ ذي بدء؛ أبيِّن، أن كتابي "طرائف نبطانية" تطرق إلى الطرائف في مدينة النبطية وبعض البلدات والقرى المجاورة لها، كالنبطية الفوقا وحاروف والدوير والشرقية، ولم يتناول "الطرائف" في بقية الحواضر والبلدان والقرى العاملية، فذلك أمر فوق طاقتي، وكما في الكتاب المبين: (لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها).
فكتاب "طرائف نبطانية" يدل عنوانه عليه، إنه يشتمل على طرائف في منطقة "محورية" في جبل عامل، وتالياً، فإنه يحتوى على ما تيسر لي جمعه من طرائفها ليس إلا، ولا أزعم لنفسي، أنني أخوض في لجج محيط "الفلكلور" الأشمل!! إن موضوعية الفلكلور تتمثَّل في لحظات حصوله، وصدوره عن الذوات الإنسانية فيصبح في "ما بعد" لحظة الفعل الإنساني، خارج الوعي، وموجوداً خارجه، لكنه يمسي في عالم "العدم"، وفي طوايا النسيان، إذا لم يدوَّن أو يصان كحدقات العيون!! وأشبِّه مطواعية الفلكلور، بفرس شموس وحصان جموح، لا يسلس القياد إلا لفارس مغوار، والسباحة في بحره سهلة لمن يمتلك أدوات المعرفة، والمنهج الواضح في أدراك كنه الأمور، وهو ممتنع على "الجاهل" الذي أصيبت بصيرته بالغشاوة!!
أما استساغته فمردّها إلى كونه نابعاً من أعماق نفوس الناس وذواتها، وهو إبداع من مخيلات "العامة" البسطاء، وتعبيراته تجليات لما تختزنه مكنونات الصدور فهو "حديث القرايا" كما يقول مثلنا العامي!!

مختارات من كتاب "طرائف نبطانية"
وكول يا بن العمّ!!
امتلك أحمد الصَّباح "أبو عدنان" مصنعاً للصابون في النبطية، وقد احتاج هذا المصنع إلى مواد أولية متوافرة في مدينة طرابلس؛ فكان كثير التردد على هذه المدينة لشراء هذه المواد.
ذات يوم، وبعد عودة "أبو عدنان" من هذه المدينة توجه مساءً إلى منزل قريب، وحين سأله صاحب الدار عن المأكولات التي أعجبته في هذه المدينة؟، أجابه: "يا بن العم! هناك أكلة شهية اسمها المدلوقة"، وعندما استفسره عن مكوناتها؟ أجاب: "فيها سميده مع سمنه حمويه، وفيها مهلبيه، وفيها شعيريه، وفيها فستق حلبي، وفيها كاجو، وفيها صنوبر، وعليها القطر، وماء ورد وزهر!!. عندها حبكت النكتة مع محمود طه، فعلَّق ساخراً: "أي نعم، يا بن العم!، حطّ كل هالإشيا على صرمايه عتيقه بتصير أشهى ما يكون، وكول يا بن العم!!".

المال الحلال رجع لصحابو؟!
باع "أبو منيف" "كديشة" من رجلٍ من قرية مجاورة للنبطية، وقام الأخير ببيعها من آخر، فاعتنى بها المشتري الأخير، وعلفها بالشعير والحشائش الخضراء، فعادت إليها حيوية الشباب بعد الهرم!!، فأراد هذا المُقْتَني بيعها، فاقتادها إلى سوق الاثنين الأسبوعي في النبطية، فتعرف عليها "أبو منيف"، وأمسك بتلابيب هذا الرجل، وصاح به أمام الملأ، بأنه قد سرق كديشته!!، فنفى "العارض" هذا الأمر بشدة، وشرح ملابسات شرائه لهذه الدابة أمام الناس الذين تجمعوا حولهما، فطلب "أبو منيف" من الحضور أن يحكموا بالعدل بينهما، وخاطبهم: "يا عالم يا ناس! هالكديشه مِلْكي!!، وسرقها هالرجال!!، ودليل ملكيتي إلها إنّا بتعرف طريق بيتي!!، فإذا استهدت عليه بتكون ملكي!!، وإن ما استهدت فهيّ مِلكو!!، فوافق الجميع على الأخذ بهذا الاقتراح، وعندما حُلَّ رباط هذه الكديشة توجهت تواً إلى منزل "أبو منيف"!!. فحكم الحضور بملكية الأخير لها، عندها صاح بأعلى صوته: "الله أكبر!! المال الحلال رجع لصحابوا!!". فأُسقِطَ بيد هذا المالك المسكين، وبكى حظه العاثر!!.

كل ما بيطلع جيل طلاع معو!!
عندما بلغ ج… مبلغ الرجال، خاطب والده قائلاً: "بسّ يكبروا رفقاتي يا بيِّ! مع مين بدي امشي؟". فأجابه: "بكرا يا بني بتكبر! وإذا حسِّيت إنك ما كبرت كل ما يطلع جيل طلاع معو!!".

خذوه فغلّوه…
نقدت امرأةٌ، الشاعرَ عباس حرقوص مبلغ 25 قرشاً كي يقرأ آيات من الذكر الحكيم عن روح زوجها، فتعمّد قراءة: (خذوه فغلّوه. أما الجحيم فصلّوه، وفي سلسلة طولها سبعون ذراعاً فاسلكوه). فسألته قائلة: "يا شيخنا أتريد إدخال زوجي النار؟"، فأجابها: "شو بربع ليرة بدي دخِّلك زوجك في جنات تجري من تحتها الأنهار؟!". 

السابق
الشيخ علي مهدي شمس الدين قاوم بيع الأرض للعدو بشراسة
التالي
الشاعر عصام العبدالله: أمشي مستقيماً في الشارع وفي الحياة