السيد جعفر شرف الدين: الجعفري المشرقي المنفتح

 مجيء السيد جعفر شرف الدين إلى هذا العالم كان مترادفاً مع بداية تاريخ جديد في لبنان والمنطقة، حيث كانت حركة الوعي المتنامية تحاول جادة أن تنفض عن هذه المنطقة كل ما علق بها من آثار العثمانيين، وتسعى بشكل حثيث إلى دخول عصر التنوير والتحرر وكانت ولادة مترافقة مع حدثين هامين:
الأول هو بداية المناهضة للفرنسيين، والثاني هو ولادة كتاب المراجعات للسيد عبد الحسين شرف الدين، ولعلّه كان للحدثين الأثر في تقرير نهج السيد جعفر وتحديد دفتي كتاب حياته، التي قضاها مجاهداً في المواقع المتقدمة في مسيرة حركة التحرر الوطنية اللبنانية، وبالتالي العربية.
كان السيد جعفر شرف الدين في طليعة الثائرين والمنتفضين في كل مرة تجد الحركة الشعبية وجوب مناهضة الجور والظلم والاستغلال وفي علاقته مع ولادة كتاب "المراجعات"، نجد أن فكره وثقافته قد ترعرعا على نهج والده المقدس السيد عبد الحسين شرف الدين، وانطلاقاً من ذلك فقد انصرف إلى تأليف الكتب وتنسيق المعلومات وتوّج ذلك بـ"الموسوعة القرآنية" الشهيرة التي أجابت عن حاجة المثقف إلى فهم وتدبر القرآن الكريم وفهم المتشابه من آياته والإطلاع على فنون البلاغة وقوة التعبير فيه.

التسامح هو العنوان
وفي مذكرات هذا الرجل الكبير، وخلال أحاديثه وخطبه، ترى كم كان متأثراً بوالده الإمام شرف الدين، والذي كان رأس الحربة في مناهضة الاستعمار، والذي حرص على أن يكون ولده جعفر وريثاً له في إكمال المسيرة وتبليغ الرسالة.
ويوافق مولده سنة 1920 وهي السنة التي عقد فيها "مؤتمر وادي الحجير" الذي تقرر فيه بعد قسم اليمين، "حفظ الأمن والحرص على سلامة النصارى" على هذا النهج استقرت شخصيته فكان متسامحاً داعياً إلى المحبة والوئام لطيفاً لين الجانب والحديث. كان خطيباً مفوهاً لا تعوزه الحجة ولا تخونه العبارة، أصيلاً ظل أميناً لشرف انتسابه، أميناً على تراث آبائه المقدسين، انتسب في طفولته إلى كتَّاب السيد شريف الأخوي، حيث حفظ القرآن الكريم ومن ثم انتسب إلى المدرسة الرسمية، وظل يلهج باسم مديرها عبد الرحمن البزري.

من الجعفرية إلى "المشرقية"
سنة 1938 انتهى عهد الكتاتيب، فقد انتصبت الجعفرية حاضرة علمية ومنارة ثقافة عالية، أسسها الإمام عبد الحسين شرف الدين، وأطلق عليها اسم "الجعفرية" تيمّناً بولده السيد جعفر، الذي لم يأل جهداً في إنجاز بنائها، والحفاظ على دورها وموقعها.
وفي سنة 1942 انتسب السيد جعفر إلى الكلية الشرعية في بيروت، والتي كان يرعاها الشيخ توفيق خالد، مفتي الجمهورية، حيث نال شهادة الكفاءة بعد الانتهاء من الدراسة في معهد الآداب الشرقية ولقائه الأستاذ فؤاد فرام البستاني والدراسة عليه عاد إلى الكلية الجعفرية حيث عمل على إدارتها بعد أن صارت تدرس الصفوف الثانوية لأول مرة في جنوب لبنان.
أسس في سنة 1945 مجلة "المعهد" واستمرت أربع سنوات وكانت بمثابة رسالة فكر وأدب ونضال شارك في تحريرها كبار من أدباء وعلماء لبنان والوطن العربي وأسس سنة 1948 جمعية البر والإحسان مع نخبة من المؤمنين.
سنة 1959 أنشأ السيد جعفر باسم جمعية البر والإحسان أربع عشرة مدرسة ابتدائية مجانية انتشرت في قرى وبلدات المنطقة. إلى العام 1963 حيث أنشأ جمعية إنعاش القرى، حيث نقلت إجازات المدارس من البر والإحسان إلى هذه الجمعية.

بين النيابة والتأليف
اعتبر السيد جعفر شرف الدين أن السياسة عمل حضاري لخدمة الناس وتطوير المجتمع فتقدّم إلى الانتخابات النيابية وفاز في العام 1960 عن دائرة صور لثلاث دورات متتالية كان خلالها الضمير الحي للمواطنين ينافح عن قضاياهم ويعمل على حل مشاكلهم، فاتحاً قلبه قبل بابه، يعيش آلامهم ويترجم تطلعاتهم.
عمل شرف الدين في مجال الكتابة الأحب إلى قلبه، لاعتباره الكلمة واللغة وعاء الفكر وأداته للوصول إلى المجتمع فألّف:
1- أدب الطَّف. 2- من هنا نبدأ – جبل عامل من لبنان – إني أتَّهم. 3- حرب رمضان – حرب الغفران. 4- جذور الثورة الإسلامية. 5- معجم أدباء المعهد. 6- تحت قبة البرلمان. 7- لبنان في حكامه وممثليه 1860 – 1980. 8- دائرة معارف التراث. 9- الموسوعة القرآنية.
غياب الطيب المسالم
رحل السيد جعفر شرف الدين في 27 تموز 2001، ولكنه ظل حديثاً حسناً وذكرى محببة، والحديث عنه يظل قاصراً عن بلوغ همته ونبل سريرته كان موضع الحاجات ومقصد العارفين والمحتاجين، ميزه سخاء الكف ولطف المعشر وبسمة ترتسم طليقه على وجهه..
بساطته وطلاقة محياه ما هي إلا الوجه الآخر لقوة شخصيته وثباتها على الحق.. كان منحازاً للعدل منافحاً عن مبادئ الدين، قوياً في محاربة الباطل، لا تأخذه في الحق لومة لائم..
حسبه أنه صار حكاية طيبة، كلما ذُكر ذكرت صفات الرجولة وحضرت سانحات النبل، ولا أحسبني إلا مقصراً في نقل صورة متكاملة عن هذا الرجل لذلك سأترك للذين عرفوه وكرموه وهم من ذوي الأقلام المشرقة أنقل عنهم بعض ما حكوه عنه خلال احتفالات تكريمه، وما أنقله غيض من فيض، آخذه عن بعض من كثير يضيق المجال عنهم فلي منهم العذر والمغفرة.

الذكرى والخسارة
يقول نجله المهندس السيد محمد جعفر شرف الدين: على ذكراك نلتقي.. لقد غاب جسدك الطاهر عنا قبل حين من الزمن، وها نحن نحتفل بذكرى روحك السمحة، وطلعتك المشرقة بالمحبة والود، وننعم بآثارك الطيبة المغروسة في القلوب والنفوس، ذكريات تتغنى بمجيد أعمالك الخيرة في جنوبنا الحبيب الذي لن ينسى مواقفك الثابتة الأصيلة وخدماتك الجليلة خلال مسيرة حياتك.. وإن ما تركت من أثر ثقافي وأدبي من مقالات وكتب وموسوعات سيبقى لينتفع به علماً ومعرفة.
أما الإمام الشيخ عبد الأمير قبلان فاعتبر أن: السيد جعفر شرف الدين مثَّل نهج أبيه المقدس الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين في احتضانه للناس ورعاية شأنهم، إنه صاحب القلم المفعم بالعطاء والأيادي الخيّرة، الملتزم قضايا شعبه وأمته، تعاطى مع أمور الناس وهمومهم أحب الفقراء فأحبوه واحتضن قضاياهم وكان الصوت المعبِّر عن أمانيهم وآمالهم وأحلامهم.

العلاّمة… المنارة
مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني: تحدث بعيد وفاة شرف الدين عن العلاّمة الذي: بذل جهداً فائقاً وسنوات طوالاً من عمره وعقله وفكره ليخرج للأمة والعالم عملاً موسوعياً رائداً يتناول القرآن الكريم بسوره وخصائصها، وترابطها وأسرار ترتيبها ومعانيها اللغوية والبلاغية وإعجازها وحكمة التنزيل فيها.
المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان قال فيه: السيد جعفر شرف الدين لم يكن مروره في هذه الحياة مروراً عادياً، فقد تأثّر وأثّر، تأثّر بوالده الإمام شرف الدين، وأخذ عنه مبادئه ومواقفه وامتاز بعلمه وتواضعه وحرصه على العلم وصارت الجعفرية منارة لجبل عامل، وقلعة منيعة في الدفاع عن القضايا الوطنية والعربية.

ثلاثي حركة الاعتراض
العلامة السيد محمد حسن الأمين قال في تكريم شرف الدين بدار الندوة ببيروت: السيد جعفر شرف الدين، معلم جبل عامل الأول، لا يمكن استحضاره، إلا لكي نستحضر الإمام عبد الحسين شرف الدين، وصرح الجعفرية، فهذا الثلاثي يشكل شخوص المسرح الذي نتكلم عنه ولا بد من أن يكون عنصر الزمان مقدساً لهذا الوجود الذي قامت عليه الجعفرية وقام عليه زمن الجعفرية… ذلك أن الجعفرية لم تكن، فحسب، مكاناً من أجل أن يذهب أبناؤنا من كل هذا المدى الجنوبي، من أجل أن يتعلموا الحرف، إنها كانت أعمق من ذلك بكثير..
تشكلت على قاعدة الجعفرية وفي مناخها وبين طلابها وأساتذتها، حركة الاعتراض التي كانت صرحاً من الصروح التي بدأها الإمام شرف الدين، والتي صنعها أمام عينيه السيد جعفر، والذي يعتبر جزءاً لا يتجزأ من التاريخ العاملي، بل من تاريخ المنطقة العربية…
الدكتور عصام خليفة كرّم عبر الحركة الثقافية في انطلياس (1994): السيد جعفر لكونه أحد المشاركين الكبار في إعلاء شأن وطننا بخبرته التعليمية ومن خلال مشاركته وتأسيسه الرائد والسهر على الجعفرية وإشرافه عليها.
ووصفه بـ"المصارع الآتي من صور العظيمة"، لمدينتك المجد والاحترام، وتقدير مواطنيك؛ أبطال مقاومة الشر الكبير الآتي إلينا في هذا الزمن المرّ.
د. موريس أبو ناضر يكرّم شرف الدين وخلال تكريم المنتدى للسيد جعفر في العام 1999 قال: ما يجمعني بهذا الجنوبي الكريم حبي لأهل الجنوب، هذه القطعة الغالية من لبنان، والتي تقدم بصمودها ومقاومتها للغزو الصهيوني، المثل الحي على أن لبنان ليس كبقية البلدان وإنما هو رسالة في هذا الشرق بعيشه المشترك وتوجهه الديموقراطي وعشقه للحرية والتحرر وإن ما يجمعني بهذا الجعفري الممتاز حبي للإسلام ولآل البيت ولمن انحدر من سلالتهم وهو واحد من هذه السلالة التي تحمل عبق النبوة وحرارة الإيمان، وعمق الدين بمنحاه الإنساني وتوجهه السماوي، أضف إلى ذلك إدراكه لمعنى التعليم فالكلية الجعفرية التي أنشأها في صور خرّجت أجيالاً من المتنورين الأحرار الذين شاركوا في بناء الوطن على أساس أن العلم يبني والجهل يفرّق. كان ينهج نهج الشهابية التي أنشأت دولة المؤسسات وجمعت اللبنانيين على احترام القوانين والتمسك بأهداب الدولة؛ دولة الحق والعدل والكرامة الإنسانية.
البستان… "القطب"
ياسر نعمة قال فيه: جعفر شرف الدين اسم علم لرجلٍ علم نشأ وتربى وتجسد وأثّر وتفاعل وبنى وغذى حياة أجيالٍ بالمعرفة والثقافة والعلم والوطنية معتزاً بما أقام وصنع.. لقد مضى علينا وعليك عقود وأجيال لا ندري عدد شموسها وأنجمها، فأنت زرعت في صور بستان شجر وارف يعطي الفيء والحياة.
وقال فيه غازي قهوجي: نرد غديرك فيباغتنا على دَهَشٍ حمام أبيض يهدهد ذاكرتنا بين "مقام" الهديل و"حال" صفق الجناح، لنغيب وجداً ونعود عبر البوح والدوح وأيام العمر الجميل، لكأنها "الحضرة" رفعت على الهدى وثبوت الاعتقاد، فأدت إلى رؤياك بعين القلب على أَلَقٍ "حسيني" الشهادة والمراجع مجسداً "القطب" الجامع الموحد لبرّ، بفخر شكل فضاء ومدى جبل عامل، وبحرٍ، بشغفٍ أطلق الحرف واللون والشراع.

أجيال وجذور
وزير التربية الأسبق بطرس حرب اعتبر: إن السيد جعفر شرف الدين من الذين آمنوا أن في المعرفة بلوغاً للحقيقة، وأن العلم طريقنا إلى النجاح وتسجيل الانتصار، وهؤلاء هم القادرون في لبنان، على توعية الشعب وتحصينه ضد المؤامرات التي تحاول أن تدخل صفوفه لتفرق فيما بيننا..
السيد جعفر شرف الدين وضع خمسين إكليلاً من الغار على رأسه، خمسين عاماً لتربية الأجيال.. نكرم من وعى الحقيقة؛ الحقيقة في كيفية الانتصار، وعبره نكرم أبناء الجنوب الصامدين الواعين لحقيقة المعركة..
المطران مارون صادر: اعتبر أن السيد جعفر هو امتداد لوالده السيد عبد الحسين شرف الدين، الموسوعة الشيعية والإسلامية، عميقة الجذور في الفقه والفكر والإفتاء، وهو في نفس الوقت، رسول علم وثقافة وتربية دينية وأخلاقية. فكان صوت صور والجنوب، وتفاعل مع النزاعات القومية طيلة قرن من الزمان.
د. وليد خوري عن الحركة الثقافية – انطلياس: اعتبر جعفر شرف الدين، ابن الشهادة الكبرى، وكربلائي يختزن فرادة التجربة الحسينية وغناها بأبعادها الإنسانية نضالاً يزرع المحبة، يقيم العدل على نزاهة في السلوك وتوازن في النهج والاعتقاد. عاملي تعلو جبينه علامات الفخار حَبكتُه مسيرة القهر على طول الزمن صقلها إيمان بالحرية لا يلين وصبر على البلوى لا ينضب.
 

السابق
قبلان: للابتعاد عن الحساسيات والتأثيرات الخارجية
التالي
الشيخ علي مهدي شمس الدين قاوم بيع الأرض للعدو بشراسة