تحقيرٌ واتهامات وإهانات وشتائم

طفح الكيل مساءً بين نواب 8 و14 آذار في البرلمان، فقال بعضهم في بعض ما لم يسبق أن تبادلوه خارجه: اتهامات وإهانات ونعوت. لكن فوضى أمس صوّرت مسبقاً ما ستكون عليه علاقة الموالاة والمعارضة في ظلّ الحكومة الجديدة

قوّضت المداخلات المتشنّجة والاتهامات القاسية التي لم تخلُ من إهانات وإساءات بلغت حدّ الشتائم والعبارات النابية، تبادلها نواب الأكثرية والأقلية، في اليوم الثاني لمناقشة البيان الوزاري لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، الانطباع الذي رافق مداخلات الثلاثاء، وأوحت بالتزام جدّي للطرفين أصول التخاطب. أبرزت مداخلات اليوم الأول انقساماً حاداً في الخيارات والموقف السياسي، إلا أن أياً من الطرفين لم يدمج ـــــ خلافاً لما حدث البارحة ـــــ التناقض السياسي بردّ الفعل الشخصي.

كان أسوأ ما رافق صخب الاتهامات والإهانات، صدورها عن الطرفين الأكثر استعداداً للاشتباك المذهبي، في المجلس كما في الشارع، وهما نواب حزب الله وحركة أمل من جهة، ونواب تيّار المستقبل من جهة أخرى، على وفرة الجهد الذي بذله رئيس المجلس نبيه برّي ـــــ في مهمة كادت تكون مستحيلة ـــــ لفك اشتباك الطرفين. خاطب وزراءه ونوابه بلهجة أكثر حدّة من نواب الطرف الآخر، وتقبّل على مضض الكثير ممّا أغضبه سماعه، وحاذر الدخول طرفاً في السجال على نحو نادراً ما خبره.

الواقع أن ما سمعه اللبنانيون الذين تتبعوا وقائع الجلستين الثالثة والرابعة أمس، وخصوصاً مساءً، عكس وطأة الاعتبارات الشخصية التي غالت في استخدام عبارات التحقير أكثر من تعارض المواقف السياسية، الأمر الذي وضع المجلس أمام امتحان تخطى انقسام نوابه بين موالين ومعارضين، إلى احتمال شلّ دوره من جراء الرفض المتبادل، بين قوى 8 و14 آذار. كان من السهولة بمكان ملاحظة نواب راحوا يدورون بين زملائهم الذين يتبادلون الاتهامات والإهانات لإطفاء ميكروفاناتهم، بغية وضع حدّ للسجالات.

إلا أن ما حدث، وهي المرة الأولى التي يشهدها البرلمان عندما ينقسم بين طرفين متناقضين لا ثالث لهما، وبين مذهبين يدافع كل منهما مع نفسه، صوّر صحة ما قاله برّي من أن المجلس يكاد يفقد دوره في تحقيق مصالحة وطنية، تدخل في صلب موقعه. بدت المخاطبة، المهينة في جانب كبير منها، بين النواب أسوأ بكثير من حادثة قذف النائب كمال جنبلاط ذات يوم، في جلسة مجلس النواب، كوب ماء على رئيس الحكومة عبد الله اليافي.

وسواء عُدّت فوضى أمس استفزازاً استدرج إليه الطرفان من غير أن يقصداه، أو تعبيراً حقيقياً عن وطأة الانقسام بين فريقين، إلا أن أياً من نواب الأكثرية والأقلية لم يستعرض خروجه من القاعة، وأصر على البقاء فيها كي لا ينسف انعقاد الجلسة، وكي يحتفظ في الوقت نفسه بحق الردّ على الفريق الآخر. ما حصل أفضى إلى حقيقة مؤلمة، هي أن مجلس النواب لم يقوَ تماماً على استيعاب الاحتقان والتشنج اللذين غالباً ما رافقا سجالات قوى 8 و14 آذار خارجه، وخصوصاً في الشارع.

مع ذلك، في ظلّ سقف سياسي مخفوض لم يؤل إلى نسف الجلسة ولا إلى الإخلال بتوازن القوى داخل المجلس يطيح حكومة ميقاتي التي ظلّت تحتمي بالغالبية النيابية، وفي ظلّ سقف شخصي سرعان ما بردت رؤوسه الحامية، قال الطرفان كل ما يريدان قوله، من دون أن يغفلا عاملين اثنين تزامنا مع انعقاد جلسات مناقشة البيان الوزاري:

أولهما، دخول الرياض على خط التهدئة في موقف مفاجئ أعلنه وزير الخارجية سعود الفيصل، الأول حيال لبنان منذ أعلنت المملكة قبل أشهر رفع يدها عن لبنان على أثر إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري. وإذ دعا إلى نبذ التشنّج والتعامل بهدوء وعقلانية يخلوان من التصعيد مع قرار المحكمة الدولية الذي تدعمه المملكة على نحو غير مشروط، حضّ الفيصل على عدم تعريض استقرار لبنان لأي خضة. وفي ذلك إشارة مزدوجة إلى مَن ذكّر بأنهم صوّتوا مع المحكمة سابقاً قبل أن ينقلبوا عليها في ما بعد، وإلى الذين يتمسكون بالعدالة والقرار الاتهامي.

ثانيهما، موقف سابق لما أعلنه الوزير السعودي، إلا أنه مكمّل له، هو القرار الذي اتخذه مجلس الشورى في حزب الله عندما أوصى نواب الحزب بعدم مجاراة الفريق الآخر في التصعيد، وتفادي استدراجهم إلى الصدام. عبّر عن هذا الالتزام النائب علي عمّار أكثر من مرة الثلاثاء، مخاطباً رئيس المجلس نبيه برّي تارة ونواب المعارضة الذين قاطعوه طوراً، بالقول إنه موصى له. كذلك أكد برّي هذا المنحى في مخاطبته نواب حركة أمل للحدّ من ردودهم العنيفة على نواب المعارضة، وأخصّهم تيّار المستقبل.

ومع أن رئيس الحكومة لم يكن طرفاً في الجدل الحاد، وأدار الفريقان المواجهة الكلامية على نحو بدا أنه أقرب إلى تصفية حساب سياسي وشخصي يتصلان بالخيارين المتناقضين لكل من قوى 8 و14 آذار، إلا أنه أعدّ رداً مسبهاً على نواب الأقلية يدلي به اليوم، في الجلسة الختامية لمناقشة البيان الوزاري، قبل التصويت على الثقة.

وبحسب مطلعين على موقفه، فوجئ ميقاتي بالنبرة المخفوضة في مداخلات نواب الأقلية مقدار توقعه ما كانوا سيدلون به، وكانوا قد جهروا بذلك تدريجاً بعد اجتماع باريس أواخر حزيران الماضي، ثم رفعوا وتيرته على أثر اجتماع البريستول الأحد، ما حمله على الردّ عليهم. ولأن نواب الأقلية حصروا حملاتهم على حكومته بموقف سلبي مسبق منها جعلهم يدورون في فلك المحكمة الدولية والقرار الاتهامي دونما الخوض في فقرات البيان الوزاري، قرّر ميقاتي في ردّه المكتوب على نواب الأقلية مخاطبة الرأي العام ووضع النقاط على الحروف في إجابته عن كل ما أثير في جلسات الثقة، من غير أن يجاري المعارضة تصعيدها.

اكتفى ببيان الاثنين الماضي، في رده على بيان اجتماع البريستول، عندما أبرز دوافع حملة هذا الفريق على حكومته، بيد أنه في الردّ المكتوب، الأكثر هدوءاً، سيفصح عمّا تريده حكومته في المرحلة المقبلة.

بل يتوقع ميقاتي بدءاً من الخميس المقبل، مع انعقاد مجلس الوزراء لمباشرة ورشة تعيينات أساسية تبدأ في الإدارات الأمنية وحاكمية مصرف لبنان، موجة جديدة من التعرّض لحكومته.

السابق
براعة السيّد…وقِحَةُ المتأمركين وفجورهم
التالي
الاخبار: عندما يكون السائل CNN والمجيب جعجع