بانتظار عودة الابن غير الضال

متمسكاً بحبال الأمل الواهية المتأرجحة في هواء امزجة السفارات والدول، ينتظر محمد ابو الديب (95 عاماً) هذه الأيّام موافقة السفير المصري في إيرلندا على السماح لابنه البكر إبراهيم (65 عاماً) والمقيم هناك بدخول قطاع غزة بغية زيارته بعد غربة طالت لأكثر من 44 عاماً، بسبب الاحتلال الإسرائيليغزة | يسند أبو إبراهيم رأسه الأشيب إلى جدار بيته المزيّن بصور كثيرة لأولاده وأحفاده الكثر مردداً بصوت عال ومرتجف وعن ظهر قلب، كلمات الرسالة التي كتبها ابنه البكر إبراهيم إلى السفير المصري في إيرلندا، كي يسمح له بزيارة قطاع غزة المحتل. يقول: «سعادة سيدي السفير: اسمي إبراهيم محمد أبو الديب مواليد المجدل عام 1946، أقيم في إيرلندا وأحمل الجنسية الإيرلندية، لكنني لا أحمل الهوية الفلسطينية، أوّد الذهاب إلى غزة لزيارة والدي المسن، أرجو القيام بالإجراءات الضرورية لعمل اللازم، شكراً». قد يكون هذا هو فعلاً النص الحرفي لرسالة ابراهيم إلى السفير المصري، لكن الأب، محمد، يحب أن يقول إنها الكلمات ذاتها حرفياً. يتلفظها، يتعلق بها. وينتظر بصبر. يصمت الأب للحظة ثم ينزل عند رغبتنا برواية قصة غربة ابنه كل هذا الوقت، وهي قصة قد تجد بغرابتها في كل بيت في المخيمات او او في الداخل. قصص هندستها الوحشية البشرية وغباؤها الورقي والرسمي. يروي الرجل بعد تنهيدة طويلة قصة غربة لا يخفف منها حتى التواصل اليومي بينهما عبر الانترنت: «في عام 1966 صار عمر ابني ابراهيم 18 سنة. طلعتو يدرس في القاهرة، وفي عام 1967 صارت الحرب وطلع الولد يشتغل في النمسا مشان يدبر مصاريف جامعته لحاله، لأن غزة صارت محتلة، ولما صارت أحداث أولمبياد ميونيخ في 1972 انحبس كل الفلسطينيين في أوروبا ومن ضمنهم إبراهيم»، بعد ذلك رُحل ابراهيم إلى يوغسلافيا ثم انتقل إلى «إسبانيا ومنها إلى ايرلندا». حسناً، ولكن ما الذي يمنعه من العودة الى غزة؟ يقول «ولأن إبراهيم خرج قبل إحصاء سكان قطاع غزة بعد احتلال اسرائيل للقطاع عام 1967 ومنح المقيمين داخله الهويات لما يسمى «سكان القطاع»، لم يحصل هو على هوية تثبت فلسطينيته، ولذلك فهو الآن غير معترف به كفلسطيني»!
الحاجز الذي يعوق عودة كافة لاجئي فلسطين حاول أن يتحدّاه إبراهيم قبل سبعة أعوام. فما كان منه إلا أن جاء من ايرلندا ووقف أمام معبر بيت حانون «وليس معبر ايريتز» كما تقول شقيقته عائدة المقيمة في غزة والتي تابعت رواية الحكاية مسترجعة تفاصيل ما حدث «ست ساعات وقف أخي أمام معبر بيت حانون محاولاً الدخول للقطاع لكن الاحتلال منعه، فقرر قضاء إجازته عند أهل لنا في الضفة الغربية، وحينما بقي له عشرة أيّام من إجازته قرر العودة للوقوف من جديد أمام معبر بيت حانون لعل وعسى، لكن محاولته باءت بالفشل وعاد إلى إيرلندا دون رؤية أهله».
أخيراً ..الأمل الجميل تفتّح في صدر عائلة أبو ديب في غزة بعد قرار فتح معبر رفح بنحو دائم. هكذا، قام الأب بلملمة أوراق تثبت إقامة إبراهيم في قطاع غزة قبل عام 1967. هذه الاوراق كانت عبارة عن شهادة الاعدادية وبطاقات عمل له، إضافة إلى شهادة الميلاد المصرية التي استخرجها له من غزة، وتثبت أنه من مواليد مدينة المجدل. بعد ذلك أرسلها إلى إبراهيم ليرفقها بالطلب المقدم للسفارة المصرية في ايرلندا، علّ هذا يزيد فرصة السماح له بزيارة ولده.
«عائدة» شقيقة ابراهيم، وليست «عايدة»، من مواليد عام1950. سماها والدها بهذا الاسم أملاً بالعودة. تسترجع عائدة الجملة الوحيدة التي رددتها والدتها كثيراً على فراش الموت: «ولاد ولادي أجانب»، تقول الفتاة. وعائدة متألمة كوالدتها لأنّ اثنين من إخوتها المغتربين تزوجا بأجنبيتين وأنجبا أولاداً بعيداً عن بلادهما، ما يجعل من هؤلاء الاولاد، مع الغربة القسرية وحصار القطاع اشبه بالغرباء، بالأجانب. تروي عائدة بحرقة قصة غربة إخوتها: «أخي منير سافر للدراسة والعمل في إسبانيا، تزوج إسبانية وأنجب منها ثلاثة أبناء، لكنه حصل أخيراً على الجنسية الأميركية لتسحب منه بذلك الهوية الفلسطينية. نبيل الأخ الثالث، سافر إلى لبنان لدراسة الحقوق وفي الحرب الأهلية لم يشفع له من هولها سوى بياض بشرته وشعره الأشقر، الحمد لله «زمط». ومن لبنان انتقل إلى الدوحة في قطر حيث يقيم فيها حالياً هو وزوجته الفلسطينية وأولاده. سمير الأخ الرابع، سافر لدراسة برمجة الكمبيوتر واستقرت به الحال في السعودية». عائلة مشتتة. شتات ذاق مرارته الأب ذاته مرتين: مرةً ساعة دمّر البريطانيون بيت عائلته في الضفة الغربية الى المجدل أثناء الثورة الفلسطينية عام 1938، ومرة ثانية في النكبة حيث هجّر مرة أخرى من المجدل إلى قطاع غزة.
كل هذا الوجع، سرعان ما يتبخر لدى إطلالة احد الاولاد. هكذا حصل لدى زيارة نبيل ومنير لقطاع غزة قبل أشهر قليلة. فقد تمكّن نبيل من الدخول بسهولة لأنه يحمل الهوية الفلسطينية، لكن منير المنزوعة منه هويته الفلسطينية بسبب حصوله على الجنسية الأميركية، تأخر عن ركب أخيه، إلا أنه تمكّن بعد يومين من الدخول بفضل خطاب موجّه من السفارة الأميركية للسفارة المصرية. ربما خفّفت من الوجع أيضاً صورة وحيدة جمعت العائلة كلها، لمرة واحدة في إطار واحد عام 2006 أثناء حفل زفاف الابن الأكبر في الدوحة. أما أبو إبراهيم، فظلّ يراقب ابنته الوحيدة التي بقيت له، بحنوّ، فيما أضاء بصيص امل عينين لا تزالان معلقتين في آخر الدرب، منتظرة على أمل أن تطل من آخر الشارع قامة ابراهيم.. ان شاء الله في القريب العاجل.

——————————————————————————–

بعد انتصار ثورة الشباب في مصر، قررت الحكومة المصرية برئاسة د. عصام شرف فتح معبر رفح بنحو دائم. المعبر كان قد أغلق لنحو أربع سنوات من طرف نظام حسني مبارك. اما قرار فتح المعبر فقد تضمن السماح للنساء بكل أعمارهن، والأطفال والشيوخ، بالعبور دون تأشيرة، أما الرجال أكبر من 18 سنة وأقل من 40 سنة فهم الفئة الوحيدة التي يتطلب عبورها استصدار تصريح خاص. من جهة ثانية يأمل الفلسطينيون فتح المعبر تجارياً أيضاً بحيث لا يقتصر على دخول الأفراد.

السابق
شيطان الفايسبوك الأخرس
التالي
الاختيار بين العدالة والاستقرار معادلة غير اخلاقية من لا يريد الفتنة لا يقوض الوحدة الوطنية