كيـف ينظـر أبنـاء الضاحيـة والطريـق الجديـدة إلـى الدولـة الجديـدة؟

يثبت اللبنانيون، يوماً بعد يوم، مدى تمرّسهم في مهنة السياسة الإعلامية، باحتراف انتزعت منه العفوية، في معرض الرد على سؤال صحافي: هل تمنح الحكومة الجديدة الثقة؟
الخطوة الأولى، في رحلة الإجابة، تبدأ من الاستفسار عن الهوية السياسية للوسيلة الإعلامية، تتبعها استشارات ضمنية، تراعي التصريح، كأنما المصرّح يدرك أن رأيه ربما يؤثر، سلباً أم إيجاباً، على «المسيرة»، ولكل منهم مسيرته الخاصة.

من المنطقتين، المتناحرتين، ارتفعت بعض الأصوات المتسائلة عن الكفاءة المهنية للوزراء الجدد، لكن بأسلوب يراعي «المسيرة»: فابن الضاحية يسأل همساً، مستفسراً، بينما ابن الطريق الجديدة يجاهر بالسؤال، كنقطة يسجلها في مرمى الحكومة الجديدة.
وبين هذا وذاك، ثمة من يلوذ بالفرار من الدردشة برمتها، إما لإدراكه أن السؤال يشبه أسئلة الصحافيين للاجئين الفلسطينيين، عن رأيهم بالعودة إلى فلسطين، وإما ليقينه بأن بلده محكوم عليه بالسير نائماً، وسط المآسي الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، بوجود حكومة أو غيابها.

يتقمص بعض أهالي الضاحية صورة ضبابية، تشي بأن صاحبها محنك سياسياً، في أثناء الدردشات الإعلامية، فيتوغلون في سرد مطوّل يروم تصنيف فريق الرابع عشر من آذار في خانة «الخائن» و»السارق»، كعزاء للجواب: «أنا أمنح الحكومة العتيدة الثقة، نكاية بـ14 آذار، ومطلبي من الحكومة هو القضاء على رموز هذا الفريق».

الرجل، طالب الثأر الواثق من نفسه، والموظف في إحدى الشركات التجارية، يصرّ على عدم تدوين اسمه، تزامناً مع إصرار عنيد: «أنا كمواطن، استفزني تهديد 14 آذار لفريق 8 آذار، وبالتالي شعرت بالنصر عندما تشكلت حكومة من دونهم».
يحاول الثلاثيني تأكيد أن رأيه هو نسخة طبق الأصل عن آراء أبناء الضاحية، مستلهماً أسلوبه في الحديث، من نائب عن أحد الأحزاب المحلية.

غير أن جولة مقتضبة، تستهدف أبناء المنطقة من أعمار ووظائف متفاوتة، تدحض نظرية النائب – المواطن، إلا أنها تؤكد في الوقت ذاته، مدى تمرّس المجيب في السياسة – الإعلامية، كأنه يريد تمرير رسالة، كرسائل السياسيين، إلى مواطنه الخصم.
بأسلوب بسيط، ولكنة «برجاوية» طريفة، يعبّر أبو شفيق، وهو صاحب محل لبيع الأدوات المنزلية في برج البراجنة، عن سبب منحه الثقة للحكومة، قائلاً: «من هو هذا العاقل الذي قد يصدّق أن الحكومة الحالية، أو غيرها، قد تطوّر الوضع الاقتصادي في البلاد؟ وبما أن الجواب «لا أحد»، ولأنني لا أصدّق أياً من هؤلاء الوزراء، فإنني أمنحها الثقة».

يغرق الرجل في صمته لثوان، منتظراً المبادرة للاستفسار عن رأيه المريب. ولمّا طال الانتظار، ولم يسمع السؤال، بادر العمّ إلى الجواب على سؤاله تلقائياً: «لأن الوضع الحالي في البلاد أصبح مقسوماً بين فريقين، وإذا قررت حجب الثقة، معنوياً، عن الحكومة الحالية ذات اللون الواحد، فإنني سأصنف على الفريق الآخر، الذي يريد القضاء على مسيرة المقاومة، وبالتالي أصبح عميلاً لإسرائيل!».

كثيرون في الضاحية اعتبروا في بادئ الأمر أن الحكومة الجديدة، ما هي إلا جسر سينقلهم إلى برّ الأمان، فتنفسوا الصعداء بانتظار التماس التغيّرات في أوضاعهم الاقتصادية. غير أن تلك المعنويات، سرعان ما عادت أدراجها إلى ما كانت عليه، إلى اليأس، لمّا أُعلن عن القرار الظني، معتبرين أن جولة جديدة، طاحنة، قد بدأت في المعارك السياسية.

وبالتالي، أصبح هؤلاء بين احتمالين: إما الإعلان، جهاراً، عن سأمهم من المبارزات السياسية التي يكونون هم ضحاياها، ووقودها، وإما أن يقفوا إلى جانب الفريق المناصر، بوجه الفريق الخصم: «القرار الظني الذي يدين أفراداً من «حزب الله» باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، هدفه تهشيم صورة الحكومة الجديدة»، يقول كثيرون منهم، ويعتبرونه دافعاً للوقوف إلى جانب المقاومة والحكومة.

وثمة من يقف خارج البقعة المدافعة عن الحكومة، معلناً أنه غير معني بالمحكمة أو بالمتهمين، بل إنه يريد العيش باستقرار، ويبتغي تأمين وظيفة وشقة وحياة رغيدة. هذا الحالم، لم يعد يكترث للنقاط السياسية، بل يريد أن تنفذ الحكومة وعودها، من دون التذرّع بالهجوم السياسي الذي يُشنّ عليها.

وهو، الحالم كغيره، مقتنع بأن تقييم أداء الحكومة لم يحن وقته، خصوصاً أنها لم تُمنح الثقة بعد. ويتسلح كثيرون، من أبناء الضاحية، بتبريرات وزراء الحكومة السابقة، في معرض ردودهم على التقصير في تنفيذ وعودهم الإنمائية، إذ كانوا يتذرعون بأن الفريق الآخر في الحكم، يحول دون تكريس نجاحهم.

يحملون تلك الردود، اليوم، كأنها سلاح مزوّد بكاتم للصوت، لا يُعلن عنها للوسائل الإعلامية، بل تتناقل بين بعضهم البعض، على نحو دراماتيكي: قالوا (الوزراء في 8 آذار) سابقاً أنهم مكبّلون، واليوم هم فرادى، ولا عوائق بوجههم.
«ماذا سيحققون لنا؟ هل تنخفض أسعار الشقق والمواد الغذائية والمحروقات؟ هل تُعالج أزمة المياه والكهرباء؟ هل تُحل أزمة السير والمواصلات؟ كيف سيواجهون الفساد؟ هل سيحاربون الواسطة في الوظائف الحكومية، وامتحانات الدخول إلى الجامعات الرسمية؟ ما هي ذرائعهم اليوم؟ المحكمة الدولية؟»، يسألون همساً. وعند السؤال الأخير، تُفتح «جبهة» من نوع آخر: الحفاظ على المسيرة. فتُنسف كل الأسئلة، والأجوبة…

في الطريق الجديدة

يوم فازت قوى الرابع عشر من آذار في الانتخابات النيابية الأخيرة، محققة أكثرية نيابية في البرلمان، بدت علامات الوجوم واضحة على وجوه أبناء الضاحية، كأنهم أصيبوا بخيبة لا يريدون تصديقها.
وعندما تشكلت الحكومة الجديدة، برئاسة نجيب ميقاتي، أحس أبناء الطريق الجديدة بأن موازين المعركة السياسية قد تبدّلت، فأصابهم الوجوم ذاته الذي لفّ الضاحية قبل أكثر من عامين.

ومع استفحال الأزمات السياسية، وتكاثر التصريحات التخوينية على «الجبهتين»، ظهرت في المنطقتين، من رحم الأحزاب والتيارات السياسية الطائفية، فئة جديدة، تعلن أمام الملأ أنها غير معنية بـ8 أو 14 آذار.
ومن بين هؤلاء، ابن الطريق الجديدة منذ
أكثر من نصف قرن، أبو عمر الذي وقف صباح أمس بين أصدقائه، في مقهى «أبو علي الصيداني»، وقال: «هل سيطعمني (الأمين العام لـ»حزب الله» حسن) نصر الله أم (رئيس «كتلة المستقبل النيابية» سعد) الحريري؟ من سيعيل عائلتي؟ 8 أم 14 آذار».

كان يسأل بحنق، وغضب، قبل أن يعلّق أحد أصدقائه قائلاً: «أنا أقترح على كل الزعماء، أن يقطعوا لنا تذكرة one way وجهة واحدة إلى أي بلد، ويبقوا هم هنا، متفرغين لمناكفاتهم السياسية، ونعدهم بأننا لن نزعجهم، ولن نعود إلى أبد الآبدين». حينها، انفجر أبو عمر ضاحكاً، وانفرجت أساريره، مرحباً بالفكرة.

غير أن سخط الرجل، كما يقول صاحب المقهى، لا يمثّل آراء أبناء الطريق الجديدة، بل العكس: «أبو عمر غاضب على الوضع الاقتصادي، لكن أهالي المنطقة لا يثقون بالحكومة الجديدة، ويعتبرون أن رئيسها قد خان الأمانة والثقة، فضلاً عن أن الوزراء الجدد غير مؤهلين لتبوّء مراكزهم الوزارية»، يصحح الصيداني الصورة.

برصانة وهدوء متزن، يخوض الصيداني نقاشه السياسي – الحكومي، متسائلاً عن كفاءة وزراء رسبوا في الانتخابات النيابية، أو وزراء لا يزالون يتمتعون بمراكز استشارية سياسية عند بعض الحركات السياسية. يقول: «أعرف كثيرين ممن هاجروا من البلاد، عندما عرفوا بخبر تشكيل الحكومة الجديدة. إنها نذير شؤم واضح».

وكمن يتحدث عن شخص غير موجود، موجهاً إليه الانتقادات في أثناء غيابه، يستدرك الصيداني أن أسلوب كلامه لا يتناسب مع حنكته السياسية، فيضيف عبارة دبلوماسية: «لكن، في كلتا الحالتين، نحن نتمنى للحكومة أن تتلقى التعاون الاقتصادي مع باقي الدول، التي أعلنت عن امتعاضها من التشكيلة الوزارية. ونتمنى أن تحقق العدالة، علماً أنها تتنصل من المحكمة الدولية. وندعو لها بالتوفيق اقتصادياً، علماً أن الدولة مديونة. نتمنى لها التوفيق».

رغم استيائه من الحكومة، لا يخفي الرجل حزنه على الواقع الحالي في البلاد، متذكراً «عندما كنّا نساعد المقاومة في الجنوب، ويوم كنّا ننتظر السيد حسن لنسمع كلمته، ويوم كنت ألتقي بأصدقائي من «حركة أمل» هنا في المقهى كأننا أشقاء. أما اليوم فقد تغيّر كل شيء، بعدما هاجمونا في أحيائنا، فتحولت المنطقة إلى مكان لا يقصده ابن الضاحية، التي أصبحت حصناً لا يفكر ابن الطريق الجديدة بزيارتها».

بحكم مهنته، يستقبل الصيداني، يومياً، أبناء المنطقة في مقهاه العتيق، ومن أحاديثهم ينطلق الرجل بالتعبير عن آرائهم، قائلاً إنهم لا يعوّلون على الحكومة الجديدة أن تغيّر من أحوالهم، و»إن حاولت، ونجحت، فإنها تريد ذلك كي تغطّي على تجاهلها للمحكمة الدولية، ومن أجل تغطية سرقات الوزراء».

ينطلق عماد عيتاني من مقولة «ما بني على باطل، فهو باطل»، ليقول إن الحكومة الجديدة «ما هي إلا حكومة فتنة، وحاميها حراميها». يصرّ عيتاني على أن مآخذه على الحكومة ليست سياسية فحسب، بل إنه على قناعة بأن الحكومة لا تريد أن تساعد عامة الناس، بل فئات معينة فقط.

ولا مفر من استهداف ميقاتي، في أثناء الحديث عن الحكومة الجديدة، من باب «الخيانة»، تزامناً مع إسداء النصائح: «لو قدّم ميقاتي استقالته، قبل أن يغويه الشيطان، لكان قد دخل في التاريخ إلى يوم القيامة. لكنه خاننا. ورغم ذلك، نتمنى لهذه الحكومة أن تخدم الناس، ونحن دائماً تحت سقف الدولة»، يقول عيتاني.

وثمة قناعة يعاند أبناء الطريق الجديدة للتشبث بها، مفادها أن الحكومة الجديدة «هي حكومة إنقاذ للرئيس السوري بشار الأسد»، يتحدثون عنها بأسلوب يشبه إلى حد كبير، أسلوب النائب – المواطن.. ابن الضاحية.

السابق
تخقيق ميليس بات باطلا…
التالي
اللقاء الصيداوي: الحرص على العمق الجنوبي للمدينة