الخروج من دم الحريري

لا يجوز ان يبقى لبنان اسيراً لدم رفيق الحريري. بقاؤه معلقاً على حبل تلك الجريمة الهائلة ربما يحقق رغبة قاتليه. مصير البلد اهم من مصير اي فرد. اقول ذلك وانا اعتبر الحريري قامة استثنائية في تاريخ لبنان المستقل. رجل كان يمكن ان يكون العامود الفقري لتسوية لبنانية ترمم روح الجمهورية. تماما كما كان كمال جنبلاط ورينيه معوض وغيرهما مع الالتفات الى الفوارق بين الرجال والمراحل. كان الحريري لاعبا كبيرا يخطئ ويصيب. وكان الاحتياط الاستراتيجي للبلاد ليس فقط بسبب علاقاته العربية والدولية بل ايضا لأنه اقتحم نادي الاقطاب من دون ان تلمع قطرة دم على يديه. وهذا غير شائع في لبنان.

لا يجوز ان يبقى لبنان اسيراً لدم رفيق الحريري. والمسألة لا تتعلق بدمه وحده. تتعلق ايضاً بمن سُفكت دماؤهم خلال نهر الاغتيالات الذي تدفق بعد 14 شباط (فبراير) 2005. هؤلاء ايضاً لا يجوز ان يبقى لبنان اسير دمائهم. قدر الشعوب ان تغادر الآم الاضرحة الى بناء المستقبل. ان توظف تضحيات الشهداء في تحصين جمهورية الاحياء. ولا يمكن الخروج من جمهورية كل الاضرحة وجميع الشهداء بعقلية الفرز وعدم التسليم لبعضهم الا بصفة القتيل سواء انتموا الى هذا المعسكر او ذاك.

قبل ايام زرت والزميل محمد شقير الرئيس نجيب ميقاتي لتسقط اخبار القرار الاتهامي وفهمنا من كلامه الدائم التحفظ انه وشيك. راودتني رغبة ان اقول لصاحب المنزل، وبيننا خيط من الود قديم، لماذا القيت بنفسك في النار؟. لم اقل ذلك لشعوري ان لا فائدة من الكلام الذي يأتي محبطا ومتأخرا.

لدى صدور القرار الاتهامي وشيوع هوية المتهمين الاربعة شعرت ان القرار اكبر من قدرة البلد على الاحتمال تماماً كالجريمة التي كانت السبب في صدوره. وشعرت ايضا ان القرار يمدد سنوات الجمر التي تقلب عليها لبنان منذ الاغتيال الرهيب. وانه يعمق عملية الانزلاق الى صدام مروع بين شهداء «حزب الله» من جهة وشهداء «ثورة الارز» من جهة اخرى. وان حكومة الرئيس ميقاتي ليست الخيار الافضل لاحتواء المخاطر التي تطل في لحظة قلق عميق لدى اللاعبين في الداخل وفي لحظة قلق اقليمي عميق. ثم ان اخراج لبنان قسرا من المحكمة الدولية لا يعني خروجه من دم الحريري وربما ادى الى عكس ذلك.

شعوري بخطورة ما قد يتضمنه القرار دفعني الى الغرق في سيناريوات وتخيلات. قلت ان اللبنانيين لن يضيعوا فرصة لجم هذا الاندفاع نحو الهاوية. واعتقدت ان كل القوى السياسية ستتصرف بما تمليه المسؤولية الوطنية قافزة فوق الحسابات السابقة وكل ما رافقها.

كان يفترض ان يستقبل لبنان القرار الاتهامي بحكومة اقطاب برئاسة سعد الحريري. والاسباب بسيطة. التفويض الاصلي من الناخبين قبل عملية التطويع القسرية. ثم انه نجل الرجل المطلوب الخروج من دمه وهو صاحب مشروعية في المطالبة والتنازل. وهو الاوسع تمثيلا في طائفته وباقرار خصومه. ثم انه كان ابدى استعدادا للخروج من دم الشهداء شرط ان يكون الخروج الى الدولة وعلى قاعدة المصالحة والمسامحة واحياء المؤسسات. هذا عدا ان وجوده يشكل ضمانة لاحباط الفتنة المذهبية ولتفادي العزلة الدولية.

على رأس حكومة مسامحة ومصالحة كان سعد الحريري سيضطر الى تجرع سم بعض التنازلات وسيضعها في خدمة التنازل للدولة. وجوده كان مفيدا لخصومه اكثر من حلفائه. كان سيعفي «حزب الله» من ان يقال لاحقا ان رفضه تسليم المتهمين الاربعة قاد البلد الى التردي الاقتصادي وعزلة عربية ودولية. كان وجود الحريري افضل للمقاومة وصورتها في العالم العربي والاسلامي حتى ولو دفعت ثمن وجوده تنازلا لمصلحة منطق الدولة.

وجود الحريري كان سيعفي الرئيس ميقاتي من ان يقال لاحقا ان دماء اهم شخصية سنية في هذا الجزء من العالم العربي ضاعت في عهد حكومته. كان سيعفي وليد جنبلاط من ان يقال انه ساهم في تدفيع البلد فاتورة قيام المحكمة ثم ساهم في تدفيعه فاتورة الابتعاد عنها. وكان سيعفي العماد ميشال عون من ان يتردد في بيئته انه اضاع دماء جبران تويني وبيار الجميل وانطوان غانم «من اجل حفنة من الوزارات» وانا احب العماد عون ولا اريد ان تلصق به مثل هذه التهمة.

كان وجود سعد الحريري على رأس حكومة اقطاب تستقبل القرار الاتهامي وتستوعبه بمنطق المسامحة والمصالحة من مصلحة الدولة. ومن مصلحة سورية في الظروف الصعبة التي تجتازها. لست متأكداً من ان وجود الحريري في رئاسة الحكومة هذه كان من مصلحته. لكن لا بأس ان يخسر الحريري قليلاً او كثيراً من رصيده من اجل انقاذ البلد ومنع الفتنة. ويخالجني شعور انه كان سيقبل بمجازفة ان يقود خروج لبنان من زمن الاضرحة الى زمن الدولة.

لم يكن قرار اقصاء الحريري حصيفاً. اعطاه فرصة الابتعاد عن كأس السم. صورة المهدد والمظلوم ستضاعف شعبيته. ومن شجعوا ميقاتي على الجلوس على كرسي الحريري بخلوا عليه بالاسلحة اللازمة. ان الاقامة في السراي الكبير في مثل هذه الظروف تشبه الاقامة على خط الزلازل.

السابق
الحياة: المعارضة: مواقف نصر الله تؤكد قراره شطب المحكمة الدولية من البيان الوزاري
التالي
الانباء: 14 آذار تحضّر لاستنساخ تجربة إسقاط حكومة كرامي عام 2005: ما قبل القرار الاتهامي غير ما بعده لبنانياً وعربياً ودولياً