الحقيقة

وفي حياتنا خصوصا. لهذا نعيش في غياب "الحقيقة"، حالا من الحيرة والالتباس، ونكون عاجزين عن التقدم لاننا غير واثقين مما اذا كانت افعالنا ستقودنا الى ما هو افضل أو أسوأ.
عندما غطيت التظاهرات الحاشدة في آذار 2005 عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، تحدثت عن رد فعل شعبي عفوي امام عملية قتل مثيرة للصدمة. بدا لي، كما لعدد كبير من الصحافيين، ان الناس لم يتقبلوا هول ما جرى فنزلوا بعفوية الى الشوارع حاملين العلم اللبناني، رمز بلادهم، ولافتات كبيرة تطالب بـ"الحقيقة" بعبارات واضحة جدا لم يهز هذا المطلب البلد الصغير او المنطقة فحسب، بل هز العالم بأسره. عبر الحدود وتصدر العناوين الرئيسية في انحاء العالم. واستقطب الدعم للبنان فهتف اللبنانيون بصوت أعلى وأكثر تصميما مطالبين بمعرفة الحقيقة. وقد اسقطوا الحكومة التي كانت تخضع للسيطرة السورية وارغموا القوات السورية على الخروج من لبنان في غضون اسابيع. وكانت لي فرصة مواكبة هذه النسخة المبكرة من الربيع العربي الذي نشهده حاليا، وحظيت بفرصة كتابة تقارير عنها من لبنان وسوريا. بعد ستة اعوام على حوادث 2005 التاريخية، نطقت المحكمة الدولية التي أنشأتها الامم المتحدة للتحقيق في اغتيال الحريري ومحاكمة من اصدروا الاوامر ومن نفذوا هذا العمل الشنيع بـ"حقيقتها". وحولت التأجيلات الكثيرة قبل بلوغ هذه المرحلة، الى التسريبات الكثيرة التي اتهمت اطرافاً مختلفين في مراحل عدة، والمشاحنات السياسية حول القرار الاتهامي – حولت اذا هذه الحقيقة اداة تستعملها المجموعات المختلفة لتحريك اوراقها السياسية بالطريقة التي تناسبها. فبين من صفقوا للقرار الاتهامي ومن نددوا به وصولا الى اعلان "حزب الله" انه لن يسمح بحصول التوقيفات، تبقى الحقيقة رهينة السياسة المحلية والاقليمية والدولية.
الحقيقة اليوم هي مثل لبنان، مقسمة اجزاء، وكل جزء يصارع الآخر من اجل البقاء. الحقيقة يتيم فقد أمه وأباه وهو ينتظر اقرباءه ليرسموا له مسار حياته. وكل قريب يشد في اتجاه كي يحقق مصالحه الخاصة. ولا احد يأبه لما تريده الحقيقة فعلا. ومع مرور الوقت، ربما نسيت الحقيقة هويتها والدور الذي كان يفترض ان تضطلع به.
في خضم كل هذا الالتباس والغموض، ثمة أمر أكيد. قالت المحكمة الخاصة بلبنان جزءا اول من الحقيقة. ولا شك في اننا سنكون على موعد مع المزيد. سوف تعرض العضلات في كل مرحلة. سوف يكون هناك رابحون وخاسرون. وفي مكان ما في وسط هذه المعركة، ستكمن دائما الحقيقة الفعلية… المسحوقة الى درجة التشويه بما يذكر بمشهد مسرح تلك الجريمة، كما بالاغتيالات التي سبقتها وتلك التي تلتها.

السابق
الأسد: للإصلاح جدول زمني … ودور للشعب
التالي
الحياة: المعارضة: مواقف نصر الله تؤكد قراره شطب المحكمة الدولية من البيان الوزاري