الصعتر يتقدم والتبغ يتراجع جنوبا

أرّخت شتلة "التبغ" لواقع الجنوبيين إقتصادياً وإجتماعياً خلال سبعينات القرن الماضي إذ تحولت رمزاً لثورتهم على "الحرمان" العام 1973، قبل أن يدخلها الإحتلال الإسرائيلي قسراً مرحلة "الموت السريري"، الى أن مارست الحكومات المتعاقبة منذ العام 1992 سياسات "القتل الرحيم" بحق القطاع الزراعي، في ظل التنمية المركزة على قطاع الخدمات فقط. فهل تندثر زراعة التبغ تدريجاً في الجنوب خصوصاً وقد سجل إنتاجها تراجعاً ملحوظاً في الأعوام القليلة الماضية؟

كان الجنوب من المناطق اللبنانية الأولى التي راجت فيها زراعة التبغ باعتبارها "زراعة حصرية يتوارثها الآباء عن الأجداد، مما جعلها تقليداً متوارثاً عائلياً"، وفق نقيب مزارعي التبغ في الجنوب حسن فقيه، الذي أشار أيضاً الى انها "زراعة بعلية تحتاج الى أرض خفيفة، كون شتلة التبغ تعيش مئة يوم فقط وتزرع في أواخر الشتاء، لكنها من أكثر الزراعات تعقيداً لأنها زراعة يدوية لم تدخلها التكنولوجيا".
هكذا إستمرت زراعة "التبغ" جنوباً بإنخراط غالبية العائلات الجنوبية فيها، ثم "بدأ التراجع الفعلي مع بداية الثمانينات نتيجة الإعتداءات الإسرائيلية المتكررة على القرى الحدودية، مما أسهم في هجر العائلات قراهم"، وفق ما أكده المهندس الزراعي حسن حطيط.
تحدث فقيه لـ"النهار" عن "عودة الروح الى هذه الزراعة المضمونة التصريف بعد التحرير نتيجة غياب الموارد الإقتصادية البديلة، إذ سجلنا إنتاج 5 ملايين كيلو سنوياً في الجنوب، لا سيما في القرى الحدودية مثال عيترون وعيتا الشعب ورميش… إلا أن تجدد العدوان الصهيوني في تموز 2006 أسهم في تراجعها مجدداً بنسبة الخمس، مع تراجع الحكومة عن دعمها وإنتشار القنابل العنقودية في الحقول فضلاً من عدم التعويض على أي من المزارعين الذين لم يتمكنوا من بيع محصولهم آنذاك". وسأل: "كيف يصمد المزارعون فيما لا يزال ثمن الكيلو الواحد 11500 ليرة منذ العام 1996 بينما مؤشر الأسعار يتجه صعوداً بوتيرة جنونية؟! لذا أنبّه الى ان التراجع المسجل خطير لأنه سيستمر ما لم تبادر الدولة سريعاً الى إعطاء أسعار جديدة كي لا تفرغ القرى من اهلها ومزارعيها".
وفي هذا السياق، شرح حطيط معاناة مزارعي "التبغ" قائلا: "كل دونم أرض يعطي المزارع حوالي مليون ليرة سنوياً، لكن كلفة الإنتاج عالية جداً إذا ما تمت مقارنتها بالمجهود المبذول. كما ان التبغ وحده لم يعد مردوده كافياً لإعالة أي عائلة في مصاريفها الحياتية. ولهذا يجب البحث عن خطة تسهم في تعدد الأنشطة الزراعية عند المزارعين، الى جانب زراعة التبغ المتميزة، بضمان تصريف الإنتاج مما قد يشجع الشبان غير الراغبين بترك قراهم على الإستثمار في قطاع زراعة التبغ وزراعات أخرى جنوباً".

الزعتر مربح ولكن!

ساهمت المساعدات الإقتصادية في قطاع الزراعة، التي قدمها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي او مكتب التعاون الإيطالي، في إطار خطتهم لمعالجة أثار عدوان تموز 2006 في تعريف مزارعي التبغ على نماذج جديدة من المزروعات الموسمية، خصوصاً زراعة النباتات العطرية التي فاجأتهم بمردودها الإقتصادي. فهل تكون هذه الزراعات بديلة أم مكملة لزراعة التبغ؟
يجزم حطيط أن "المبادرات التي أطلقها مكتب التعاون الإيطالي أو غيره من الجهات المانحة في المجال الزراعي جنوباً يمكن وضعها في إطار الزراعات المكملة لزراعة التبغ لإعتبارات عدة، اهمها انها زراعات موسمية مربحة لكن تصريف إنتاجها يخضع لسوق العرض والطلب". ولفت الى ان "الزعتر من أهم هذه الزراعات العطرية المكملة، لأنها ليست زراعة معقدة ولا تحتاج لكميات كبيرة من المياه، ويمكن بعد سنة أو سنتين تحويلها زراعة بعلية، علماً ان الإنتاج سينخفض حتماً، كما أنها زراعة لا تحتاج الى أسمدة كيمياوية مما يوفر الكثير من المصاريف على المزارع".
وأضاف: "الإشكالية تكمن في توفير الأسواق مستقبلاً، فالكمية القليلة المنتجة يمكن تصريفها بسهولة وبأسعار مربحة اليوم، لكن ماذا لو ضاعفنا الكميات؟ هل سيجد المزارع اسواقاً لتصريف إنتاجه؟ فإذا بادرت الجهات الرسمية الى تحديد مواصفات دقيقة للصعتر اللبناني تميزه عن الزعتر التجاري المستخدم في الأفران، عندها يمكن فتح الأسواق في شكل كبير أمام المزارعين علماً ان تربة الجنوب مناسبة لإعطاء نوعية عالية من الصعتر الذي سيتيح كل هكتار مزروع منه، وفق دراسة إيطالية، إعطاء 500 كيلوغرام من العسل".
من جهته إعتبر فقيه أن "لا زراعات بديلة من التبغ تلوح في الأفق القريب، كما أن الزراعات المكملة كالصعتر لا تعطي مردوداً عالياً بفعل أزمة المياه الحادة في الجنوب، ولم يعتد المزارعون عليها"، مؤكداً ان "لا حل لنا سوى بالمحافظة على زراعة التبغ عبر دعمها مجدداً كوننا لم نبادر الى بناء السدود والبحيرات ولم نجرِ الدراسات المطلوبة على التربة لتحديد أي من الزراعات المكملة او البلدية يمكن السير بها في الجنوب. كما يتوجب إيجاد أسواق للتصريف قبل البحث في إنتاج بديل من التبغ". فهل من خطة طوارىء زراعية تنقذ شتلة "التبغ" برمزيتها السياسية والإجتماعية، ام هناك حاجة لثورة مزارعي "تبغ" جديدة في الجنوب؟!

السابق
رسالة تهديد بالموت مقرونة برصاصة
التالي
قرار قضائي بمنع صحيفة من نشر التحقيقات مع فايز كرم