الديموقراطية ليست شرطاً لازماً لتحقيق التنمية

نشرت مجلة "الكتب وجهات نظر" في عددها الخاص بالثورة المصرية (صدر بتاريخ شباط 2011 ووزع في حزيران) مقالة عن "فقر الديكتاتورية" لداني رودريك. منها نقتطف:
لعل الأمر الأبرز والأكثر إذهالاً الذي توصل إليه تقرير التنمية البشرية السنوي العشرون التابع للأمم المتحدة، الصادر مؤخراً، كان الأداء المتميز الذي أبدته البلدان الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فهنا احتلت تونس المرتبة السادسة بين 135 بلداً فيما يتصل بتحسن مؤشر تنميتها البشرية على مدى العقود الأربعة السابقة، قبل ماليزيا، وهونغ كونغ، والمكسيك، والهند.. ولم تتخلف عنها كثيراً مصر التي جاءت في المرتبة 14.
ان مؤشر التنمية البشرية عبارة عن مقياس للتنمية التي تحقق انجازات في مجالات الصحة والتعليم إلى جانب النمو الاقتصادي. والواقع ان أداء مصر (وبخاصة) تونس كان طيباً بالقدر الكافي على جبهة النمو.
ولكن أداء البلدين كان بارزاً بشكل خاص فيما يتصل بهذه المؤشرات الأوسع نطاقاً. وتكاد تونس بمتوسط العمر المتوقع الذي بلغ 74 عاماً تضاهي المتوسط في المجر واستونيا، حيث يبلغ مستوى الثورة اكثر من ضعف مثيله في تونس. وفي مصر يواظب نحو 69 % من الأطفال على الذهاب إلى المدارس، وهي نسبة تضاهي مثيلاتها في بلدان أكثر ثراء مثل ماليزيا. ومن الواضح أن مثل هذه البلدان لم تفشل في توفير الخدمات الاجتماعية أو توزيع منافع النمو الاقتصادي على نطاق واسع.
ولكن في النهاية لم يكن لكل هذا أهمية كبرى. فقد كان التونسيون والمصريون، في صياغة جديدة لتعبير هارود بيل، غاضبين كالجحيم ازاء تصرفات حكوماتهم، وعازمين على عدم قبولها بعد الآن أبداً. وإذا افترضنا ان زين العابدين بن علي في تونس أو حسني مبارك في مصر كانا يأملان في الفوز بالشعبية السياسية في مقابل المكاسب الاقتصادية، فلا بد أنهما أصيبا بالاحباط الشديد الآن.
إن الدرس المستفاد من العالم العربي "المذهل" اذن يتلخص في أن الآداء الاقتصادي الطيب لا يعني في كل الأحوال الآداء السياسي الطيب: فالانفصال بين الأمرين وارد لبعض الوقت. صحيح ان بلدان العالم الغنية تكاد تكون كلها ديموقراطية، ولكن السياسة الديموقراطية لا تشكل شرطاً ضرورياً أو حتى كافياً لتحقيق التنمية الاقتصادية على مدى فترة زمنية تمتد لعدة عقود من الزمان.
على الرغم من التقدم الاقتصادي الذي أحرزته بلدان مثل تونس ومصر، وغيرها من بلدان الشرق الأوسط، فقد ظلت هذه الدول رازحة تحت وطأة انظمة مستبدة تتحكم فيها مجموعة ضيقة من المقربين، ويستشري فيها الفساد والمحسوبية والمحاباة، والواقع ان هذه البلدان تحتل مراتب مشينة فيما يتصل بالحريات السياسية والفساد، على نحو يتناقض بشكل صارخ مع المراتب التي تحتلها على مؤشرات التنمية.
أما الدرس الثاني فهو أن النمو الاقتصادي السريع لا يستطيع ان يشتري الاستقرار السياسي بمفرده، ما لم يسمح للمؤسسات السياسية بالنمو والنضوج بسرعة أيضاً.
والواقع أن النمو الاقتصادي في حد ذاته يعمل على توليد الاستنفار الاجتماعي والاقتصادي، الذي يشكل المصدر الأساسي لعدم الاستقرار السياسي.
وعلى حد تعبير العالم السياسي الراحل صموئيل هنتنجتون قبل أربعين عاماً: "فإن التغير الاجتماعي والاقتصادي والتحضر وزيادة مستويات الثفافة والتعليم والتصنيع وتوسع وسائل الاعلام الجماهيري، يعمل على توسيع مساحة الوعي السياسي ومضاعفة المطالب السياسية، وتوسيع مجال المشاركة السياسية". والآن باضافة وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيس بوك إلى المعادلة، فإن القوى المزعزعة للاستقرار التي يطلقها التغير الاقتصادي السريع قد تصبح غامرة وساحقة".
إن هذه القوى تبلغ أوج قوتها عندما تتسع الفجوة بين الاستنفار الاجتماعي ونوعية المؤسسات السياسية في أي بلد ناضجة، فإنها تستجيب للمطالب الصاعدة من الأسف من خلال الجمع بين الاستيعاب والاستجابة والتمثيل، وحين تكون هذه المؤسسات متأخرة فإنها تمنع هذه المطالب وتحجبها على أمل ان تتلاشى من تلقاء ذاتها. أو تغطي عليها بتوفير بعض التحسينات الاقتصادية.
والواقع أن الأحداث الجارية الآن في الشرق الأوسط تبرهن بوضوح على هشاشة النموذج الثاني. فالمتظاهرون في تونس والقاهرة لم يحتجوا على الافتقار إلى الفرصة الاقتصادية أو الخدمات الاجتماعية الهزيلة، بل احتشدوا ضد نظام سيسي شعروا انه ضيق الأفق، وتعسفي، وفاسد، ولم يسمح لهم بالقدر الكافي من حرية التعبير.

السابق
قرار قضائي بمنع صحيفة من نشر التحقيقات مع فايز كرم
التالي
امتيازات الطوائف وخطوطها الحمر