من استقلالي لبناني الى استقلالي سوري..وكلانا شاعر

"حين سمعتني اتباهى:
(لا اريد ان اكون افضل من احد)
كنت اصدّق انني كما تقولين
أفضل الجميع".
 
على هذا المقطع من قصيدة في ديوانه الشعري "الشاي ليس بطيئا"، أبني رسالتي اليك يا منذر. لأن بيننا على ما احسب عن بعد "آمال شاقة"، "داكنة" تشبه "مزهرية على هيئة قبضة يد". وبيننا ايضا مساحة الشعر الرحبة الشاسعة المتسامحة، تلك التي جعلت الشعراء الاميركيين جميعا، يعترفون ان "عزرا باوند" هو اهم شاعر اميركي حديث، رغم صداقته مع موسيليني في الحرب العالمية الثانية، وعمله "بوقا" في اذاعة روما الناطقة باسم الفاشية. بيننا يا منذر مفتتح واسع للكلام، ومقدمات مطوية في الشرح والتوصيف والمقاصد.
دخلت الانتفاضة السورية شهرها الثالث ونيف. بذل خلالها الشعب السوري طاقة جبّارة في اصراره على التغيير والانتقال من طور القهر الى طور الحرية. سوريا الدماء التي سقطت واريقت، حيثما كانت وجهة قبرها ومثوى اجسادها مناطقيا وجهويا وطائفيا.. للأسف (هل تعرف يا منذر انني كنت اظنك مسيحيا قبل الثورة؟). وقد اثمرت دماء السوريين حتى الآن وازهرت مكتسبات يستحقها الشعب السوري واكثر.. انا حانق على دم كل سوري الى اي موقف انتمى. واسأل المولى والمعنى ان يلفّه بشآبيب رحمته الواسعة.
انا خائف الآن يا منذر، منذ قرأت بيانات التخوين لمؤتمر المعارضة الذي انعقد في دمشق، أدركت ان الحرية شيء والديموقراطية شيء آخر، وأنّ بين من ثاروا ضد الظلم والاستبداد، مستبدّون كثر، شموليون لن يفعلوا الكثير بفعل الحرية اذا امتلكوه، وقد يرمونه طبقا للمصالح، ويستبدلونه بنقيضه عندما يتسيّدون.
لا تقل لي أن هذه عوارض الثورة. من قال لك بأن كل ما تجلبه الثورات جيّد؟
لا احد في وسعه الدفاع عمّن يمنعونك من السفر، ولا احد يجرؤ على ان يختلف في زماننا مع "الثوار". لأنه على ما المحت صديقة مشتركة في رسالة الي انهم "ابواق" يجلجلون للسلطة. اي سلطة؟
تلك التي قاتلُتُها سياسيا ومعرفيا وثقافيا مع قلّة قليلة من رفاقي في لبنان. ولا زال كتفي الايمن يؤلمني "بيولوجيا" في السابع من آب كل عام، لأن رجل امن من عندنا او عندكم ضربني بهراوة كهربائية حين كنت اهتف لرحيل الجيش السوري من لبنان. هذه المعركة خضتها في زمانها ومكانها، وبعض من يثورون اليوم "معكم" من وراء الشاشات واجهزة الكومبيوتر مرتدين ثياب النوم، كانوا يكتبون حينها عن "جمال السوليدير"، والابنية المرممة، ويضعون البنية التحتية لأسلمة لبنان ومذهبته بالعمارة واشجار النخيل قبل السياسة. (هل تعرف يا منذر ان مسجد محمد الامين وسط بيروت يخفي تحت ابطه كنيسة تاريخية؟ لن تراها وانت تمرّ على جسر فؤاد شهاب، لأن الغزو الصحراوي اخفاها).
دعني اصارجك يا صديقي: فكرتي واضحة وضوح الشمس. لست مع التغيير الحاقد، ولم ار بديلا عن السلطة القائمة حتى الآن سوى الاحتمالات. لا وجود في العالم لثورة بجدول اعمال مفتوح. هذه سابقة ثورية. وغالب الظن ان الاحتمالات جميعها مضرة بأهداف ثورتكم النبيلة وانا ابادلك تلك الاحتمالات ومخاوفي.
في مصر مجتمع متجانس بالحد الادنى، لا تشدّه العصبيات الطائفية والمذهبية والقبلية والجهوية، مصر دولة امة. وكذلك تونس. وحين خرجنا من رومانسية "ميدان التحرير"، وجدنا انفسنا في حروب اهلية ليبية يمنية، وفي صعود مخيف وغير مسبوق للهويات الضيقة على مستوى المجتمع السوري. مصر قد تحتمل الظواهر السلبية ونعرف السبب، لكنّ مجتمعا مبنيا على بنى عشائرية وقبلية وطائفية لن ينتج بالتأكيد دولة مدنية حديثة كما تطمح واطمح. ينبغي عليكم ان تراكموا، وعلينا ان نراكم ايضا. اذا راكمتم في التجربة، ونجحتم في اضعاف الولاءات المتهالكة سننجح نحن بلبنان في بناء دولتنا. واذا اعليتم شأن المواطنة "في النفوس قبل النصوص" في وسعكم اقناعي واقناعنا بأن ما ينتظر سوريا افضل مما هو قائم. خوفي على سوريا هو نفسه خوفي على لبنان.
منذر.. اعتقد يا صديقي أن الاصلاح الدستوري، والنضال السلمي المدني اليومي، والتسامح والانفتاح والدعوة الى "المصالحة" بين الشعب والشعب، وبين السلطة والشعب، هو المدخل المثمر لنجاح اهداف الثورة. وهذا يتطلب شجاعة الحوار، والقرارات الصعبة، وعدم الانجرار وراء الخطابات الشعبوية التي تريد قتل الناطور لا اكل العنب.
ثمّة ظواهر سلبية كثيرة بدأت تتجمع فوق سماء انتفاضتكم. من الشيخ والداعية السلفي عدنان العرعور، الى "تنسيقيات" التخوين والرفض، الى الانتهازيين والفوضويين واصحاب الغايات. حافظوا على نقائكم وعلى المكتسبات التي حققتموها حتى الآن، فالزمن السياسي يتغيّر بسرعة والمصالح والحسابات الكبرى قد تطيح بكل شيء. ما حصلتم عليه حتى الآن يمكن ان يكبر ويثمر اذا اخترتم طريق الحوار آخذين في الاعتبار ان كل نجاح لكم يجب ان يصب في خانة استقرار سوريا، وان كل فشل في خوض الحوار ليس لمصلحتكم، وانّ المعاندة والمكاسرة انما ستجعلكم تخسرون كل شيء.
 
السابق
هرقل الصيني يجر سيارتين بإصبعين
التالي
ترنح حزب الله!