الثورات لا تمطر ذهبا

منذ يناير (كانون الثاني) الماضي، وهناك خمس عواصم عربية معطلة سياسيا، وإداريا، وأمنيا، لكن أعظم من ذلك كله هو السقوط القوي – والحر – لاقتصادات تلك العواصم بالقدر الذي باتت فيه نتائج الانتفاضات العربية مهددة بالفشل، وهذه المرة من الباب الاقتصادي. في موجة الاحتفاء بالمظاهرات التي عمت تلك العواصم العربية، والتي تحول البعض منها إلى حالات عصيان مدني وفوضى مفتوحة، غاب عن البعض اعتبارات أساسية ربما فاقت أهميتها مسألة الثورة على الاستبداد، منها: الأمن الاقتصادي.

سواء اختلفت أو اتفقت مع بعض سياسات النخب الحاكمة في البلدان التي ضربتها حمى الثورة، فإنه لا يمكنك إغفال أن اقتصادات تلك البلدان شهدت نموا اقتصاديا، وارتفاعا ملحوظا في الاستثمارات الأجنبية خلال السنوات الخمس الماضية، بحيث إن دولا مثل تونس ومصر – بل وحتى ليبيا وسوريا – تمكنت من إدخال عدد من الإصلاحات الاقتصادية والتشريعات التجارية التي حسنت من حظوظها التنافسية في الأسواق الإقليمية. هذا لا يعني أن تلك الأنظمة كانت خالية من الفساد، أو أنها تمكنت من القيام بنهضة اقتصادية، بل كل ما في الأمر أنها حسنت ظروف الاقتصاد بشكل عام، وإن لم يترجم ذلك إلى رجل الشارع العادي، ولعل السؤال هنا: هل كانت تلك الأنظمة السلطوية – الريعية – ضحية لإصلاحات السوق وتحرير التجارة؟

في حديث مع خبير اقتصادي أوروبي شارك في تقديم استشارات لإعادة الهيكلة الاقتصادية لبعض الدول العربية خلال العقد الماضي – لم يشأ ذكر اسمه – أشار إلى أنه يشعر أن الظروف التي أدت إلى ما يسمى «الربيع العربي» هي في جزء منها مرتبطة باختلال التوازن بين الأنظمة ومواطنيها بعد أن تعثرت المعادلة «الريعية» القديمة، التي تفيد بأن النظام يحكم الأغلبية من مواطنيه في مقابل أن يؤمن الاحتياجات الضرورية عبر حزمة طويلة من مشاريع الدعم للغذاء، والسكن، والوقود، والتعليم، والعلاج، ومشاريع إصلاح زراعي وتأميم للمرافق الخدمية، وفوق ذلك كله تضخم نوعي وكمي في عدد الوظائف والأجهزة الحكومية في القطاعات كلها؛ بحيث باتت الدولة مسؤولة عن توظيف الملايين من المواطنين، وتأمين رواتبهم التقاعدية.

المعادلة وفرت الاستقرار السياسي لأكثر من خمسة عقود، لكن حين قرر الجيل الشاب في السلطة أن يرث الحرس القديم وأن يثبت نواياه التحديثية والإصلاحية عبر تحرير التجارة، وخصخصة مرافق الدولة، واستقدام الاستثمار الأجنبي، بل وحتى الانفتاح على مؤسسات المجتمع المدني وحقوق الإنسان ورعايتها – كما حصل في ليبيا مثلا – هنا حدث الخلل الكبير، فعجزت الدولة عن التوفيق بين أنظمة وتشريعات واقتصادات محلية متخلفة بموازاة اقتصاد حر وحديث، ونخبة عصرية متأثرة بالنموذج الغربي، قاد ذلك كله في النهاية إلى حالة انفجار، وحين حاولت أجهزة الدولة الأمنية العودة إلى ممارساتها القمعية القديمة سقط النظام بالكامل.

باختصار، فترة الإصلاح التي شهدتها بعض الأنظمة خلال العقدين الماضيين أسهمت – نسبيا – في سقوطها، ليس لأن الإصلاح يؤدي إلى الفشل، بل لأن اعتماد الانتقائية في «الإصلاح»، والعجز عن التوفيق بين الممارسات والمؤسسات القديمة والمؤسسات الحديثة والطبقة الحديثة يخلقان حالة من عدم الاستقرار. في أعقاب سقوط بعض الأنظمة اعتلت السلطة شخصيات – بعضها ديماغوجي – تزايد على مواقف الشارع الثوري، وتقوم بتقديم سيل من الوعود والتعهدات فيما خص الاقتصاد، يصب أغلبها في خانة التعمية والتضليل. فعلى سبيل المثال، ينتشر في الوقت الراهن خطاب «شعاراتي» مفاده أن أحد أسباب فساد الأنظمة السابقة كان في اعتمادها على توصيات وسياسات مؤسسات دولية – كالبنك وصندوق النقد الدوليين – وأن اقتصاد الثورة يجب أن يكون مستقلا ومعتمدا على ذاته، وأن يتجنب الاقتراض من الدول الغربية، بل يذهب البعض إلى الدعوة لتأميم بعض الاستثمارات والممتلكات الأجنبية بدعوى أنها حدثت في عهد الفساد، وسرقت أموال الشعب. في المحصلة، يدعو هؤلاء إلى نموذج اقتصادي لا يمكن وصفه إلا بمركزية اشتراكية عدائية تجاه الأجنبي.

في مصر مثلا، أطلقت مجموعة من المسؤولين في الحكومة الانتقالية عددا من الوعود والشعارات والبيانات المتناقضة فيما يخص حالة الاقتصاد المصري اليوم. وزير المالية المصري، سمير رضوان، قال إن الحكومة المصرية لن تلجأ إلى الاقتراض من البنك الدولي أو صندوق النقد، قائلا إن مصر قادرة على خفض العجز في موازنتها المقبلة، وتمويل نفسها من دون الحاجة للأجنبي، وإن ذلك ينسجم مع مطالب شباب الثورة. أما فايزة أبو النجا، وزيرة التخطيط والتعاون الدولي، فقد أكدت أن مصر لا تخضع لأي إملاءات من صندوق النقد أو البنك الدوليين، مشددة على أن «مصر لا تستمع إلا لصوت مصلحتها فقط، أولا وأخيرا، وأن مساعدات الدول الصديقة لا تخضع لشروط تمس بسيادة مصر».

غني عن القول إن أي طالب علوم اقتصادية مبتدئ لا يمكنه إلا أن يصاب بالذهول عند سماعه هذه التصريحات، فمراجعة سريعة لسجل الاقتصاد المصري منذ بداية هذا العام تكشف عن كارثة – حقيقة – تتهدد مستقبل البلد الاقتصادي. لقد خسرت مصر قرابة 10 مليارات دولار من احتياطاتها الأجنبية – أي ما يقارب الثلث – وتراجع النمو الكلي بواقع 10%، وتراجع الإنتاج الصناعي المصري بأكثر من 12%، ناهيك عن توقف عائدات السياحة، والاستثمار الأجنبي. أما أعداد العاطلين عن العمل فقد تضاعفت، بينما فقدت البورصة الكثير من قيمتها، وأكثر التنبؤات الاقتصادية تحمل أخبارا سيئة للغاية حتى في أفضل السيناريوهات.

ما معنى أن يطلق المسؤولون في مصر تصريحات وأرقاما هم يعرفون، قبل غيرهم، أنها غير دقيقة؟ لقد تلقت الحكومة المصرية وعودا بمساعدات – وديون – تفوق الـ20 مليار دولار، فكيف يمكن أن يقال إن مصر لن تستدين من الخارج؟! الاحتجاجات والمظاهرات عطلت الحياة العامة في مصر والبحرين وسوريا واليمن وليبيا، بحيث بات من المتعذر أن تستعيد هذه الدول قدراتها الإنتاجية والصناعية، فضلا عن أن تقوم بزيادة الإنتاج لتغطية العجز. أولئك الذين يخرجون بالآلاف في عواصم تلك البلدان لشهور هل ينتجون شيئا بالأساس؟!

مشكلة دعاة «الربيع العربي» أنهم يجادلون بأن ما حدث ضروري كي تتحسن الأحوال، حتى لو استمرت الفوضى لبضع سنوات، لكن الحقيقة المرة هي أن هذا الاضطراب الكبير الذي أصاب بعض اقتصادات دول المنطقة قد يستمر لعقود مقبلة دون أن تتمكن تلك المجتمعات من استعادة وضعها الاقتصادي. البعض يتصور أن مظاهر الاحتجاج ومقارعة السلطات الحكومية، بل وزيادة تدخل الحكومة في تسيير الاقتصاد وفرض تشريعات حمائية ودعم للسلع وزيادة للمرتبات دون زيادة واقعية في الإنتاج أو مصادر الدخل، ستحل مشاكل الدولة على المدى البعيد، لكن الأرقام لا تستقيم مع تلك التمنيات المبالغ فيها.

لعل هذا السلوك يذكرنا بحكاية الرجل الذي تخلى عن عمله، والتزم دار العبادة يدعو أن يُرزق دون أن يقوم بالعمل. أي أن الثوار الذي يملأون الشوارع العربية يريدون أن تؤمِّن لهم حكوماتهم رغباتهم كلها، دون أن يفكروا في محدودية وتواضع مصادر الدخل والقدرة الإنتاجية في بلدانهم.
يقول الاقتصادي الأميركي الراحل ميلتون فريدمان: «مصدر رئيسي للاعتراض على الاقتصاد الحر هو على وجه التحديد تلك المجموعة التي تعتقد أن ما تريده يجب أن يكون.. إن وراء معظم الحجج ضد السوق الحرة عدم وجود حرية الاعتقاد في حد ذاتها».

إذا كان دعاة «الربيع العربي» يؤمنون فعلا بالحرية، فعليهم أن يقبلوا بحرية السوق لا أن يعيدوا بلدانهم إلى العهد الاشتراكي، وأن يباشروا الإنتاج الحقيقي بدل الاحتجاج المتواصل ارتهانا للفوبيا الثورية، فالثورات لا تمطر ذهبا.

السابق
مخطط لجعل الجنوب في عين العاصفة لحساب جهات إقليمية !!!
التالي
ميقاتي بين ناري … المجتمع الدولي وحزب الله