نور الدين بدر الدين شاعر الحب والظرافة

 عندما طلب الأديب الشيخ علي الزين من الشاعر نور الدين بدر الدين في السبعينيات من القرن الماضي أن يزوّده بما عنده من قصائد فكاهية كي يدوِّنها في كتابه طرائف العامليين أسوة بغيره من شعراء جبل عامل، وردته رسالة من شاعرنا جاء فيها:
«قبل إجابة مطلبك أود أن أطلعك على الناحية الشعرية الخاصة التي يعرفني بها المقرّبون فقط، وهي الشعر القصصي المنطلق من كل قيد، المصور لحوادث غرامية واقعية أو خيالية دون التزام بقيود العرف والعادة، أو شئتم بالآداب العامة، ومن الذين كانوا يطلعون على شعري يومئذ الشيخ علي الزين رئيس (عصبة الأدب العاملي) يومئذ وقد أطلق علي لقب (عمر بن أبي ربيعة)، وقد خدعت بأقوال الشيخ علي واعتقدت أني أصبحت كذلك ولم أتورع عن التلميح إلى هذا، أولاً تسمية ولدي خطاب، وثانياً في قصائدي المشار إليها».
فمن قصائده التي تقارب حدّ المجون ولم تتمجّن تلك التي جرت حوادثها في النبطية وكان عيّن مدرساً فيها وتعرف على صديقه الأستاذ جعفر الأمين فكانت تلك المعرفة فأل خيرٍ على دنيا الشعر الأدب لما انحنت به الربوع العاملية من محاسن وطيب شعر المراسلات الذي اشتهر بين الشاعرين وذلك بعد أن انتقل السيد جعفر إلى قريته شقرا مديراً لمدرستها وبدأ الأستاذان بالتراسل يبنيان أشواقهما شعراً وسخرية ولهواً.

غزوات غرامية
يقول شاعرنا نور الدين بدر الدين في هذه القصيدة:
حسناء في شرك الهوى أوقعتها والنفس في طيب اللقا عللتها
ما زلت أرقب غفلة عن أهلها حتى إذا نام الرقيب قصدتها
فوجدتها خضعت لسلطان الكرى فدخلت في حذر ومذ أيقظتها
فتحت ذراعيها معانقة وقد عطفت عليَّ تضمني فضممتها
حتى إذا ثار الغرام بصدرها ودنت تقبلني وقد تيمتها
عبقت يداي بها وكان مشجعي أن استمر على التمادي صمتها
حتى تقضى الليل وهي تود أن لا ينقضي ليل به غازلتها
فنهضت خوفاً أن يرانا عاذل وعلى مواصلة اللقا ودعتها
وفي قصيدة أخرى مسرحها إحدى القرى المجاورة للنبطية أيضاً يصف إحدى غزواته الغرامية:
وصلت مقرها وكأن قلبي يكاد لقربها شوقاً يطير
ولكن ما بنيت من الأماني تداعت وأمحت تلك القصور
فقد أبصرت وكر الحب قفراً فلا خل هناك ولا سمير
وإذ قد لاح لي نور ضئيل أنست به وعاودني السرور
فتحت الباب في حذر ورفق مخافة أن يؤرقها الصرير
ومذ قاربتها انتبهت وصاحت بذعر: من هنا. فأجبت «نور»
تبدد ما اعتراها ثم قالت جعلت فداك ما هذا الغرور؟!
فقلت دعي الملام فقد دعاني إليك الوجد والشوق الوفير
وها قد نامت الرقباء عنا ووقتي يا معذبتي قصير
فكان جوابها أن عانقتني وغاب العقل عنا والشعور
قضينا الليل في اللذات حتى صحا الغافي وزقزقت الطيور
وفي مقدمة طريفة لديوان الشاعر المطبوع حديثاً بقلم صنوه وزميله الشاعر جعفر الأمين وكان قد حاول جمعه شاعرنا ثم تقاعس لأسباب صحية قبل وفاته يقول السيد جعفر مخاطباً صاحب الديوان في كتاب مؤرخ أول نيسان عام 1976:
هل سمعت بالشاعر الفرنسي بودلير صاحب كتاب (أزهار الشرّ)؟ فهو شاعر افتكر وتعلم أما أنت فقد افتكرت وعملت ثم نظمت.
لا تقل (مرسي مسيو) وتهز رأسك كالحرذون في حرّ آب!! ولا تحسب أن طربوشك المزفت أصبح برنيطة فتهم برفعه للوداع كأن الباخرة شبليون بانتظارك لتذهب بك إلى فرنسا للدخول إلى الأكاديمي بين الأربعين عضواً الخالدين، فأنا لا أقول أنك مثله، فتاريخك وأمتك لا تلد مهما سمت إلا أنصاف رجال وأشباح عظماء ولكنك وفي قومٍ مثل قومك «البودلير وزيادة» والقرد في عين أمه غزال!! لقد شبعنا تقليداً ومللنا السير وراء الغير كقطيع الغنم وتمشي رؤوسها بين أرجلها همها تتبع الخطى والسير على صوت الجرس وهي لا تدري أإلى المرعى تساق أم إلى المسلخ!

..جبة سوداء وعمّة خضرا
ولما نقل الأستاذ نور الدين مرّه إلى إحدى قرى الجنوب المتاخمة لفلسطين ولم يستطع البقاء فيها طويلاً لصعوبة العيش هناك، وجّه أبياتاً إلى المرحوم رياض الصلح وكان رئيساً لمجلس الوزراء على شكل كتاب راجياً نقله إلى مركز آخر. وهذا ما حصل والأبيات هي هذه:
أيمكن في بليدا أن أعيشا إذا صمتوا وإذا نطقوا وحوشا!
يرون نفوسهم كبراً ملوكاً ومن سفهٍ مزاجهم عروشاً!
وإن صورتهم – ولهم زعيمٌ وأحكمت الصناعة والرتوشا
رأيت الفن يطلقهم بحق حميراً حكموا فيهم كديشاً!
أغتني لن أطيق بها حياة ولو مسخت حجارتها غروشا
وفي قصيدة أرسلها السيد جعفر الأمين إلى الأستاذ نور الدين في النبطية:
إليك (أبا الخطاب) ترجع بي الذكرى وتبعث بالأطياف حالمة سكرى
تعود إلى ماضٍ حبيب حبيته وأخوة صدق عشت بينهم دهرا
نسيت لديهم كل حيفٍ لقيته وأنقذت نفسي من جهنمي الحمرا!
علي لكم دين أود وفاءه تحملته دهراً ونئت به ظهرا
فلو كان بالامكان صهر عواطفي ملأت سماكم من تفتقها عطرا
ولو أنني أستطيع عصراً لمهجتي لكنت أسلت الأرض من تحتكم خمرا!
ولكنني والحمد لله عاجزٌ فلا نفع عندي ترتجيه ولا ضرا
فلم يبق لي والحال ما قد علمته سوى (أضعف الإيمان) أرسله شعرا
فأجاب شاعرنا:
(أبا أكرم) بدلت من حلونا مرّا وخلفتنا من كل مأثرة صفرا
نأيت فلم يملأ فراغك سيّد وتاهت علينا في سيادتكم (شقرا)
لأن جد فيك الشوق نحوي فأنني أقيس ذراعاً كلما قست شبرا
فرب دهرٍ ليس يعدل ساعة وساعة أنسٍ فيك قد تعدل العمرا
نحنُّ إلى الماضي ونشتاق قربكم وإن كنت أعلنت القطيعة والهجرا
وقد كان أولى أن نسومك ذلّة فعدنا رضينا في جهالتكم قسرا
فمن طبعنا حفظ الذمام وأنه عزيز علينا أن ندير لكم ظهرا
عهدناك لا تأوي لغير قطيعنا ولست تطيق البعد عنا ولا الصبرا
وبت بشقرا لا ترى لك مؤنساً سوى جبّة سوداء أو عمَّة خضرا!
فهاجتك أطياف النعيم بقربها فعدت كئيباً كالح الوجه مغبّرا
وفي قصيدة للشاعر الأستاذ بدر الدين بعنوان (خيبه) عقب نقله إلى إحدى القرى النائية:
قضى يا صاحبي أمر الحكومة إلى بلد الدمامة والخصومة
فكيف أعيش فيه؟ فلا جمال تطيب به الحياة ولا نعومة
وأيّان التفتُّ فلست ألقى أمامي غير أشكال دميمة!
ولكن إبنة الجيران كانت بنسبتهنّ جوهرة يتيمة
وقلبي لا تلذّ له حياة بغير الحب كي ينسى غمومه
أبى إلا التعلق في هواها ولست بمستطيع أن ألومه

..لو أن عنتر مثل حظي حظه
تواعد السيد نور الدين بدر الدين وكان معلم مدرسة (الزرارية) والسيد جعفر الأمين معلم مدرسة (كفرصير) آنذاك للذهاب مع تلامذتهما إلى القاسمية للتفرج على المشتل الزراعي هناك على أن يمرّ السيد جعفر عليه في الزرارية ليذهبا معاً ولكن حالة الطقس السيئة حالت دون وفائه بالوعد فكتب إليه الشاعر هذه الأبيات ساخطاً على صديقه:
لمَ لم تفِ فيما وعدت وتحضر وتحيد عن سنن الرياء يا جعفر
هل خفت من حرا الهجير ونفحه حتى ثنيت عن الوفا يا أسمر
رجعوا حيارى خائفين وقد علت أصواتهم بالاحتجاج وثرثروا
قالوا ترى ذاك المعلم كاذبا في وعده أم أنه متكبر
أفلست ظالمهم إذا ما لمتهم إن وبخوا لجنابكم زفّروا
هدأتهم وأنا أعزيهم على ما ضيّعوه لأجلكم وتخسروا
قلت اذهبوا واستبدلوا ما فاتكم من نزهة وعلى طعامكم أفطروا
ولقد هجوتك دون خوف ساخطاً وحكمت بالاجماع أنك «أزعر»
فأجابه السيد جعفر:
ما كنت كذاباً ولا أنا أزعر تنفي الحقيقة ما تقول وتنكر
تأبى لي السوآت نفس عفة وسريرة بيضاء وقلب أطهر
لو كان يدري الناس بعض فضائلي لغدوت أُرْقَى عندهم وأُبخر
ولو أنني قد عشت في زمن مضى صلوا علي مع النبي وكبروا!
ولطاف لي فوق البسيطة منبر أوفى إليه وفي القيامة منبر
ولعشت ديكاً في الحياة وبعدها حور وولدان ودف ينقر
لكني وهنا يتعتع مقولي خط الحقير بذي الحياة معتر
ما رحت أطلب من زماني بغية الأرواح لما أروم يؤخر
إن قمت يدفعني الطموح إلى العلى ألفيتني بجراب بيضي أعثر
لو أن عنتر مثل حظي حظه قسماً لما قهر الفوارس عنتر!
ولما جَنى من ثغر عبلة قبلة ولما انجلي عن إليتيها مئزر!
فإذا بُليت بأزعر خلع الحيا فالدهر قبلك يا «معرِّض» أزعر!
 

السابق
العريضي: ان ما يؤلمنا ويقلقنا هو ان المحيط يتغير في اتجاه العودة الى لبنان القديم، اما لبنان الذي نريده متجددا بركائز الديموقراطية والحرية للاسف ثمة محاولة لرد لبنان الى موقع آخر
التالي
من حواريات الشعر التهكمي (بغداد – النجف – جبل عامل)