من حواريات الشعر التهكمي (بغداد – النجف – جبل عامل)

 ضيوف جبل عامل وما قالوه من شعر طريف
حلّ الشيخ حبيب الكاظمي البغدادي الشاعر الظريف ضيفاً على جبل عامل ونزل جويا البلدة الجنوبية المعروفة وهي وإن كانت اليوم مشهورة بأهلها المغتربين الذين عمدوا إلى تجميل بلدتهم بالشوارع الفسيحة المنيرة ليلاً وبتشييد القصور والصروح الفخمة التي تثير الإعجاب، فإنها قديماً كانت كما أكثر نواحي جبل عامل موصوفة بالشعر والأدب وكرم الضيافة وذلك بما تحوي من رجال علم وأدب على قدر وافٍ من الحصافة ودماثة والأريحية.
والمعروف أن العراقيين، والخليجيين، لا يستسيغون الطعام الذي يحتوي الحبوب والبقول بكثرة وينفرون منه ويرونه ثقيلاً غير قابل للهضم بسهولة، فلما أكل الشيخ البغدادي الضيف هذا الطعام واستثقله وكان لم يذقه قبلاً فلتت منه هذه القصيدة على سبيل المداعبة:
أشكو إلى الله ما لاقيت في زمني حالاً تفرق بين الجفن والوسن
حتى أستقر النوى في أرض عاملةٍ فخيرتني بين الذلّ والشجن
كنت المشوق (لقانا) أم (جوية) أم (لدير قانون) لا حيّا بها سكني !
أكنت قبل النوى أشتاق (ترمسها) أم قادني الشوق (للبلوط) والشعن !
أم (للبليلة) لا بلت غلالتها أم (بقلة الفول) عنها كنت غير غني!
أم (للسميد) بلحم النيء منجبلاً وربَّ واضع (زيت) فيه يكرمني!
أم كان قد مرّ بي دهر فعودني (بربورة) طبخت بالماء واللبن!
(بقلة الحمص) المجروش ما دخلت بطني ولا ذقتها كالناس في زمني
إن (المجدرة الحمراء) أكرهها لذاك أمست عجوز البيت تكرهني!
و(كبة الحيلة) البيضاء أرغبها لأنها طبخت بالرز واللبن
والفول والحمص المهروس أكلهما مع الطحينة أكل راح يعجبني
ومما قاله الشيخ طالب ابن الشيخ حبيب الكاظمي مراسلاً بعض أصدقائه من طلاب العلم العامليين في النجف الأشرف وأرسلها إليه من صور وكان قد أقام فيها في النصف الأول من القرن الماضي:
أنسيت موقفنا برملة صور في الليل عند المركب المكسور
مذ غبتمُ لم يبق لي أنسٌ سوى حزني وتسكاب الدموع سميري
حيِّ العراق وأهله من معشر وردوا من العلياء كل نمير
أين العراق من الشآم وأين من ضوء النهار حنادس الديجور
لم تلف فيها غير أروع أروعٍ أو شاعرٍ أو عالم نحرير
وببلدتي لم ألف غير مداهن متملقٍ أو مدع بالزور
قومٌ إذا اجتمعوا فجلُّ حديثهم فخرٌ بأكلٍ أو بلبس حرير
من قائل (مقطوش) ديك عندنا إني أفضله على (القرقور)
أو قائل سمك البحار (مطجناً) فضلت مأكله على (الطرطور)
أو قائل هذا النهار مباركٌ فيه شربت النصف من (شختور)
قوم يرون النثر نثر رضائهم ويرون نظم الشعر خبز شعير!
ماذا يشوقك يا أخي من عاملٍ وصفائها قد شيب بالتكدير
(الكبة) من نيء لحم فوقها زيت من الزيتون و(الجرجير)!
أم (للمجدرة) التي قالوا لها ست المنى تهدى لكل أمير!
أم في (بقلة الفول) التي تدع الفتى ساهي الفؤاد كشاربٍ مخمور!
أم في (حبقها) تهيم (وترمس) في اللون يحكي مقلة المصفور!
أم «للبليلة» في «مخيض» حامض تطفي الحرارة من حشى المحرور
أم للبراغيث التي في «عامل» ملكته من «يارون» للدامور
وكأني بأرض لبنان مهزوماً غزتني قوارص (الغازيّة)!
ضقت ذرعاً حتى انتهيت (لحاروف) مروّعاً وواجم النفسيّة!
فتولت (حاروف) جسمي فأضنته (بعقص) يصول في مقضبيَّة!
لم أجد من يجيرني غير قوم أنجبتهم فطاحل النبطية
أنا إن عنَّ لي تذكر (مبسوط) بسطت الثناء في العاملية!
أو تصورت (يا لطيف) تعجّبت لهجر القواعد النحويَّة!
سيِّد جاء (ببدّي) و(هيكي) فسمعنا رطانة أعجميّة!
ربِّ رحماك من مصاليت قد شنّوا على اللفظ غارة حربيّة!
قلبوا النسخ من حروف الهجا ء فالقاف همز وطاؤهم تائيّة!
لست أنسى «أبا سليمان» إذ جا ء يقود الأعشى إلى الحنفيّة
ثم ناداه باحتدامٍ: (أواماً) لا (تطرمش) منك (الأواعي) النقيّة!
فحسبت السماء ترسل صوت الرعد فوقي بلهجة وحشيَّة!

جواب عاملي مفحم
فأجابه الشيخ محمد رضا الزين بقصيدة تهكّم فيها بالمقابل على بعض التعابير العراقية ومما جاء فيها:
جئتَ «يا قاسم» بغرِّ معانٍ أفرغت بالقوالب العسجديه
وتلطفت في نظامك لكن لم تصنه عن خطة العنجهيه
قد عرفناك منصفاً فلماذا لم تراع ما تقتضيه السجيه؟
عبت «طرطش» وأنت «هتشي» و«دبشي» مثل (طرطش) سماجة لغوية!
كل قطرٍ تراه يخلق لفظاً قد تعدى المناهج العربيه
كيف تنسى (مناجسة) فوق (قاب) فوق (رازونة) بصدر البنية !
إن ألفاظكم (كعتوي) و(شنهو) مثل (إشلون كيفكم) همجيه!
لغة تنفر المسامع منها وكذاك الطبائع البشريه
عبت زيتوننا وأكل طعام هو أشهى اللحوم «كبَّة نيَّة»
إن من يجعل الجراد طعاماً كيف يقلي اللحوم وهي شهيه!
إن ترد (قيمر) فعندي (هوش) مثل (هوش للعدان) (كرّاديه) !
اضرب الكف بالتراب وفرفك ثم مسِّح يديك (بالخاشيه) !
واشرب الشاي (بالكلاص) ودعني بالفناجين أحتسي (العدنيه)
قلتَ شعراً وقلتُ فميِّز أيُّ شعرٍ أحق بالأولويه
 

السابق
نور الدين بدر الدين شاعر الحب والظرافة
التالي
الشاعر والمؤرخ العاملي الشيخ علي الزين