المقاومة والهويّة الوطنيّة.. رسومات الطوائف لسلاح حزب اللّه

السعار الطائفي والمذهبي على أشدّه، ونوع الاستقطاب القائم لم يعد يؤثر فيه الكلام الواضح. حتى الحقائق مجرّد معلومات، لا تدخل في قناعة مَن كوَّنَ قناعته خلال العقد الأخير واكتفى. واليوم، ثمّة استسهال عند الجماعات الطائفية بأن تحصر الهوية الوطنية بمصالحها فقط، فتصبح قضية المقاومة من صلب هذه المصالح.

مسيحياً، أحدث العماد ميشال عون تحوّلاً واسعاً في المزاج العام عند المسيحيين، وأدخل في حلقاتهم الضيقة بنداً سجالياً كان سهلاً حسمه سابقاً برفضه. أما اليوم، فصار محل تجاذب بين داعم الى حدود التماهي مع المقاومة، وبين من يرى فيه مصلحة لبنانية وحتى مسيحية. ومسار السنوات الخمس، التي مرت على التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله، وفّر مناخاً في هذا الاتجاه، ولو أن بين المسيحيين المناصرين للعماد عون وللنائب سليمان فرنجية وقيادات مسيحية أخرى من صار يرى بقاء المقاومة في صلب المصلحة المسيحية، وبواسطة المقاومة يمكن هذا الفريق أن يحفظ موقعه داخل الدولة وداخل السلطة.

الموقف من المقاومة الذي اختلط بالموقف من الحليف الشيعي لا يحتاج إلى شرح كبير، بما في ذلك التوضيح بأن الوقوف إلى جانب المقاومة له أكلافه، لكنها ليست من النوع المباشر. فأي تاجر مسيحي، أو مصرفي، أو أستاذ جامعي، أو رب عمل أو موظف، لن يخسر أعماله إن وقف إلى جانب الموقف السياسي الداعم للمقاومة. ليس مطلوباً منه المجاهرة وخوض المعارك الشخصية التي تهدد مصالحه المباشرة أو تهدّد عائلته أو امتيازاته. وفي هذه النقطة، لا يشعر فريق 14 آذار بأن الوقوف بوجه المقاومة سوف يؤثر فعلياً على الحياة اليومية لجمهورها. لأن المطروح ليس مواجهة شاملة على أساس الموقف من المقاومة، بل إن المواجهة قائمة على مصالح المسيحيين. والتجاذب حول المقاومة هو جزء من التجاذب حول أيّ آلية يمكن أن تحقق المصالح أكثر للمسيحيين.

عند خصوم المقاومة من المسيحيين، يرتبط الأمر أكثر بأولوية تقول إن المسار التاريخي لمسيحيّي لبنان لا يسمح لهم بالاقتراب من فكر أو جسم أو ثقافة أو سلوك على خصومة مع الغرب، أو مع النظام الرسمي في العالم العربي. ويركز هؤلاء على أن المصلحة الفردية للمسيحي اللبناني تفرض عليه ممارسة يومية أقرب الى العقل الغربي، وتحاكي الانفصام عند عرب أميركا، الذين يرتبون الطقوس الغربية، لكن بعيداً عن الأضواء. يعتقد هذا الفريق أن الانسحاب من كل مواجهة مع الغرب أو مع النظام الرسمي للعرب هو الضمان لهذه المصلحة الفردية.

لكن المشكلة أن هذا الفريق، ومعه آخرون من التيار الآخر، صار أكثر قلقاً كلما تزايد نفوذ المسلمين في إدارة الدولة، فتكون النتيجة المزيد من الانكفاء عن الانخراط في السلطات وفي الإدارات وفي المؤسسات، وطبعاً في المؤسسات الأمنية والعسكرية. صارت الغالبية أقرب الى القطاع الخاص، وإن كان لذلك تبعاته على واقع الدولة وحمايتها، وحتى على الموقف الشخصي من فكرة القطاع العام، فإنّ له بعده المتصل بالهوية الوطنية نفسها. بمعنى أن الدولة قد لا تبقى الممثل الفعلي لمصالح هذه الجماعة.

وبالتالي، فإنّ متطلبات الاندماج في هذه الدولة التي تقودها غالبية إسلامية، وفيها نفوذ متزايد للفريق المؤيد لفكرة المقاومة، هذه المتطلبات تتحول الى عبء عند هؤلاء. ومن هذا المنطلق، يصبح الابتعاد عن الدولة فيه نوع آخر من الابتعاد عن المقاومة. وهذا يشرح أحد الجوانب الرئيسية لكون غالبية القوى النافذة في فريق 14 آذار، ليست معنية بكل ما يسمّى الإصلاحات الجوهرية داخل مؤسسة الدولة.
هي ذاتها اللعبة عند الدروز الذين باتوا اليوم أرباب التقيّة. لم يعد وليد جنبلاط زعيماً مطلقاً. اهتزّت صورته كثيراً. مشكلة البناء الاجتماعي ـــــ السياسي لهذه الطائفة تجعله، إلى حد بعيد، يمسك بمفاتيح المبنى، وتُترك له المساحة الأبرز في طبقاته. كادت 14 آذار تجعله (أي جنبلاط) شريكاً كاملاً، أغوته المغامرة، لكنه اكتشف أن شرط الزعامة الكاملة يفرض مغادرة هذا المبنى، أو إيكال أمره إلى آخرين. وعندما حصلت المواجهة، ترك كل شيء وعاد إلى المنزل وأقفل البوابات ورفع الأسوار.

صحيح أنه لم يُطرد، لكنه الآن يعيش وسط الصراخ والاحتجاجات، وإن أتت من دون عنف. لكن الدروز عندما يغلقون الأبواب ويتحدثون عن زعامة جنبلاط، يشكون من أنه أفرط في الذهاب والإياب، وأنه أفرط في استخدامهم في هذه اللعبة أو تلك، وهم الآن لا يسمعون منه تبريرات مقنعة غير إشعارهم بأن كلفة مواجهة المقاومة باهظة. وهو يكتفي بالقول لهم: ليس لديّ ما أفعله! ثم يقول لهم مطمئناً… ليس مطلوباً منكم حمل السلاح إلى جانب المقاومة، ولا مقاتلة الآخرين دفاعاً عنها. فقط التزموا الصمت والحياد الإيجابي، وقولوا القليل من الكلام الذي يخفّف التوتر ويسمح بتواصل ولو على أساس الرياء، فقط لأجل تمرير الوقت… ومقابل ذلك، يستعيد، باسم الجماعة، موقف الشريك القوي. صار عليه أن يقبض الثمن مضاعفاً. أولاً لأنه غادر الموقع الآخر، وثانياً لأنه محشور بين أهله. وهكذا، فكل ثمن يقبضه جنبلاط يحسم من رصيد خصومه داخل الجماعة، أولئك الذين لم يكن بمقدورهم أكثر من هزّ العرش وإعلان الاعتراض، ولو على شكل صراخ.
حتى خصوم جنبلاط عند الدروز، من الزعامة العائلية المنافسة تاريخياً أو المستجد من قيادات، فإن الصورة ليست على اختلاف جذري. بل ربما يوجد أصل لهذه الجذرية عند قواعد حزبية علمانية. وفي مكان ما، خلال العقد الأخير، قامت سوريا بدور حاسم في وجه هذا الفريق من الدروز إزاء قضية المقاومة. لكن التحول على صعيد الثقافة العامة وعلى صعيد السلوك الاجتماعي لم يكن بالمستوى نفسه للتحول في الخطاب السياسي. وعندما جاء اختبار أحداث أيار عام 2008، بدا أن الخطاب السياسي لأنصار المقاومة وسط الدروز أدنى بكثير من الترجمة على الأرض، وتحول الى رسالة متعددة الاتجاهات. بدا مرة جديدة أن الوعاء الطائفي الكبير هو الأكثر نفوذاً من كل الأطر التي تأخذ شكل زعامات أو قيادات أو حتى أحزاب.

لكن الحيرة ليست في أصل التحول الذي قام عند هذا الفريق من مسألة المقاومة، بل في انفكاك القائل عن قوله عند محاولة مطابقة الكلام العام لغالبية تسير خلف تيار «المستقبل» والجماعات الإسلامية، التي تتحدث عن المقاومة على أنها حق مشروع، وعن إسرائيل باعتبارها العدو المطلق. وبين الموقف من المقاومة عملياً على أرض الواقع، نجح التيار الأميركي في توسيع الهوة الى حدود أن تياراً يمثل أكثر من 60 في المئة من سنّة لبنان يرى في سلاح المقاومة شيئاً غريباً عن ضرورات تركيبة الهوية الوطنية.

وبهذا المعنى، صار أصحاب وجهة النظر هذه ينظرون الى المقاومة على أنها تمثل فريقاً واحداً من اللبنانيين، وأن هذا الفريق لا ينافسهم فقط على النفوذ داخل دولة ما بعد اتفاق الطائف، بل على أولويات المشاريع التي يفترض بالإدارة اعتمادها. ولذلك عمل الحريريون بقوة على إيهام (أو إقناع) غالبية المؤيدين بأن المقاومة هي عدوّ لمشروع البناء والإعمار الذي يعتقد هؤلاء أنهم أربابه… ثمة عبارة قيلت في 9 آذار 2005، رداً على خطاب السيد حسن نصر الله في 8 آذار في شكر سوريا: شارون دمّر بيروت وحافظ الأسد حماها… كان الحريريون يريدون من نصر الله القول: شارون دمّر بيروت، ورفيق الحريري عمّرها!

السابق
الاخبار: إسرائيل: صواريخ الأسد ستسقط بيد حزب اللّه
التالي
السعودية وقيادة المرأة.. مرة أخرى