التغيـير فـي سوريـا كـاستثمـار طـائفـي فـي لبنـان

سحب الانقسام السياسي الأبدي في لبنان ذاته على الأحداث الدموية الخطيرة التي تشهدها سوريا تحت عنوان ضرورة الإصلاح الشامل للنظام، منذ مئة يوم أو يزيد، والتي أوجبت الدعوة ـ رسمياً ـ إلى مؤتمر وطني للحوار، استبقته مجموعات من المثقفين والناشطين السياسيين في الداخل بالإعلان عن حوار مواز، وخارج الرعاية الرسمية سيبدأ أعماله اليوم.
ولعل هذه الأزمة السياسية الخطيرة التي ترج سوريا وتصبغ أرضها بدماء أبنائها، عسكريين ومدنيين، وتستدعي مواقف اعتراضية قوية من معظم الدول الغربية، وسط صمت عربي مريب لا يمكن تفسيره ببراءة القصد أو النوايا، قد جاءت في موعدها تماماً، بالنسبة للطبقة السياسية في لبنان لا سيما من باتوا في موقع «المعارضة» حالياً، والذين يرون انتصارهم الأعظم في سقوط النظام السوري الذي يعتبرونه مسؤولاً عن إنجاز خصومهم تشكيل «حكومة ما بعد الحريري» بكل ما تعنيه للداخل والمحيط العربي و»الدول».

لقد كان النظام السوري يتبدى، إلى ما قبل فترة وجيزة، وكأنه محصن ضد زلازل التغيير التي اجتاحت الأرض العربية، مشرقاً ومغرباً في الشهور السبعة الماضية، فأسقطت أنظمة عاتية (تونس ثم مصر) وهددت أخرى بالسقوط… وظلت دمشق تعتبر ذاتها خارج دائرة الخطر، إلى أن بدأت التظاهرات تخرج بمطالب مشروعة، وفي نواح متعددة، وسرعان ما سحبتها المواجهة المتسرعة بالسلاح إلى موقع مختلف تماماً، ثم تكشفت أبعاد ما تسميه دمشق «المؤامرة» مع ارتفاع شعار إسقاط النظام وتوالي المصادمات الدموية مع المتظاهرين كل يوم جمعة.

أما في لبنان فقد بادرت «المعارضة الجديدة» إلى توظيف الحدث السوري في ما يخدم مصالحها، آخذة بالاعتبار الدعم الدولي لمناهضي النظام في دمشق، مضفية على حركتها بُعداً طائفياً ومذهبياً فاقعاً يكاد يخرجها من دائرة الصراع السياسي إلى الفتنة، التي يصرخ دعاتها ليلاً نهاراً بالحض عليها في الخطب والبيانات المكتوبة الصادرة عن سياسيين كما عن رجال دين والتي شهدنا في طرابلس بعض «تعبيراتها» المباشرة، مع أصداء لها في جهات أخرى في لبنان.
.. وكان واضحاً أن هذه «المعارضة الجديدة» تعبّر علناً عما يضمره أركان أساسيون من أهل النظام العربي الذين يعتصمون ـ رسمياً ـ بالصمت تاركين لحلفائهم المحليين كما لفضائياتهم المؤثرة أن تشن على النظام السوري حرباً شعواء سرعان ما يرفعها الاتحاد الأوروبي عالياً عالياً حتى أبواب مجلس الأمن الدولي.

لقد ارتكبت السلطة في سوريا أخطاء فادحة في معالجة الأزمة التي بات لها الآن وجه دموي، مما أساء إلى صورة النظام وإلى دور سوريا العربي والدولي، وقدمت تزكية مجانية لأنظمة أشد قمعاً وأعظم تخلفاً وأفدح في إساءتها إلى صورة «العربي» في كل مكان وزمان

أما في لبنان فلم تكن أخطاء النظام السوري هي هدف الاعتراض الذي تجاوز السياسة إلى الحيز الطائفي والمذهبي.
صارت «نخبة» الطوائفيين في لبنان حماة التغيير الديموقراطي في سوريا.. بقدر ما صار حكّام الصمت المذهّب في الأرض العربية هم المنافحون (إعلامياً على الأقل) دفاعاً عن الإرادة الشعبية وضرورة احترامها والخضوع لإرادتها.
.. وصار دعاة المذهبية المستعدون لإشعال فتن مدمرة لا تنتهي هم حماة الحق البديهي للأكثرية في رفض حكم الأقلية.

طمست سوريا الواحدة الموحدة ليبدأ الحديث عن «سوريات» بعدد الطوائف والمذاهب، والعناصر والأعراق، فيها..
وشتان بين مَن أخذ على النظام تقصيره وتأخره في مباشرة الإصلاح السياسي الشامل الذي تحتاجه سوريا وبين من يحرّضون ضد وحدة الشعب السوري وضد دولته وهويتها ودورها القومي المؤثر.
واضح أن هؤلاء يحاولون سحب المعركة إلى لبنان، والقيام بهجومهم المضاد في الداخل. فهم ليسوا خصوماً للنظام السوري، وقد كانوا ضيوفه المميزين حتى وقت قليل، بل هم خصوم للتغيير الحقيقي في سوريا. وهكذا قفزوا من فوق أخطاء النظام إلى الحيز المذهبي لتبرير الانحراف السياسي.

وينسى هؤلاء أن من يحرض على حرب أهلية في سوريا سيدفع ثمنها غالياً في لبنان، ومن ينفخ في نار الطائفية والمذهبية فيها ستأكله هذه النار في لبنان.
للمناسبة: هل اكتشف حكام الجزيرة والخليج طبيعة النظام السوري، بالأمس فقط، هم الذين حالفوه على امتداد أربعين عاماً أو يزيد وطالما أطلقوا عليه لقب «حارس البوابة الشرقية»… أم أن الاحتلال الأميركي للعراق قد غيّر المعادلة وكشف التبدل الجذري في طبيعة الأدوار ومن يؤديها؟!

وبالتأكيد فليس بين مطالب الشعب السوري، وأولها الإصلاح السياسي، التمثل بالتجربة اللبنانية المتفوقة في نجاحاتها… الدموية!
كذلك فليس بين مطالب هذا الشعب الشقيق الوصول إلى أي من الأنظمة القائمة في الأرض العربية (والتي كان نظامه الذي يطالب الآن بتغييره الأنجح من بينها).. في الخارج على الأقل.
ونفترض أن المشاركين في الحوار من أجل الإصلاح لن يعبروا عن «طموحهم» في اتخاذ المثال من بين الأنظمة العربية القائمة: لن يتم استيراد الديموقراطية من الجزيرة ولن تحملها إليه الدبابات من العراق تحت الاحتلال الأميركي ولن تأتيه مذهبة بتواقيع الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي.
ونعرف أن الشعب السوري لا يتطلع إلى عدالة اجتماعية كتلك التي توفرها العطايا والهبات والشرهات في الأرض التي تتدفق خيراتها بغير جديد.
[ [ [
يعرف اللبنانيون صعوبة الأوضاع القائمة اليوم، في سوريا، سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً. وهم يتمنون أن يتقدم النظام سريعاً على طريق الإصلاح الذي بات ضرورة حياة.
ويعرف اللبنانيون المخاطر التي تتهدد هذا الحوار، سواء ما يبدأ منه اليوم ـ الاثنين ـ وضمن إطار شعبي وغير رسمي، أو الحوار الأوسع الذي سوف تكون له رعاية رسمية وبجدول أعمال محدد يتناول سائر المطالب الحيوية للسوريين، سياسياً واجتماعياً، والذي يفترض أن ينتهي بإقرار الخطوات المتسارعة لإعادة بناء النظام بما يحقق المطالب الشعبية المزمنة، بعد تحرير الدستور من بعض المواد التي فرضتها ضرورات النظام بالأمس والتي لم يعد جائزاً أو مقبولاً أن تستمر اليوم في الحجر على الحقوق الديموقراطية البديهية للشعب السوري… ودائماً ليس على الطريقة اللبنانية بأي حال.

وبالتأكيد فهناك بين المعارضين المقيمين في الخارج من له سمعة طيبة أو من يبرز من بين المثقفين العرب… وكان يؤمل أن يشاركوا، ولكنهم رأوا أن ذلك غير مجد، أو أنه تأخر كثيراً عن موعده، ومن هنا جاء رفضهم للحوار مع النظام، وقد شاركهم بعض من في الداخل رفض المشاركة في ما اعتبروه حواراً عبثياً لن ينتهي إلى شيء.

وما يهم اللبنانيين الذين يعيشون قلقاً مزدوجاً: على سوريا وشعبها ودولتها، وعلى أنفسهم في أوضاعهم المضطربة والتي كانت دمشق تشكل ـ في العقود الأربعة الماضية ـ إحدى ضمانات الاستقرار لنظامهم الفريد في بابه والذي لا يعيش في غياب راع عربي معزز بتأييد دولي… وها هو لبنان مكشوف تماماً أمام «الدول» التي تهتم بنظامه أكثر من اهتمامها بشعبه… فنظامه بعض إبداعاتها وبعض مصالحه، أما شعبه فتراه أشتاتاً وتفضل أن تتعاطى مع طوائفه ومذاهبه وعبر «قياداته» من أهل النظام الطوائفي الذي لا يتعب من تقديم الأدلة على تخلفه ومعاداته لطموح شعبه.

مع التمني دائماً ألا يلقى «الحوار الوطني» في سوريا ما لقيه «الحوار الوطني» في لبنان من شلل أفرغه من أي مضمون، وحول لقاءاته من السياسة إلى الاجتماعات، ثم عطله تماماً الاستغلال الطوائفي لقضايا وطنية سامية من بينها المقاومة وسلاحها، في حين ظلت مسألة إصلاح النظام السياسي المعطوب بالتكوين خارج نطاق اهتمام المتحاورين!
وفي انتظـار أن تبرز ملامـح خـروج سوريا من أزمتها سيظل القلق المصيري هو الخـبز اليـومي للمــواطن في لبـنان، كائنـاً ما كان اتجاهـه السياســي المموّه لانتمائــه الطائـفي أو المـذهبي.

السابق
السفير: إسرائيل تهدّد بمهاجمة الجنوب إذا تدهور وضع المنطقة والبيان الوزاري يُسابق القرار الاتهامي
التالي
أيّ أوراق يراهن عليها الأسد؟