الثورة وسياسات الإغراق الإسلامي

مجرد الرهان على إضطرار الإسلام السياسي عاجلاً أو آجلاً إلى إعتماد السياسة التوافقية مع التيارات الأخرى في إدارة مابعد الثورة يبدو رهانا على الوهم، أو محاولة لخداع النفس بملائكية إفتراضية في الخصوم، أو في أقل تقدير تعبير عن ضمير متفائل يدفع بحسن نية الخصوم لمداراة عجز بنيوي في ماكينة التخييل السياسي.
هذه المقدمة الخائبة الظن، ماكان لها أن تكتب لولا النظر بتمعن إلى طواحين الهواء المتلاطمة التي أدخل الإخوان المجتمع كله فيها خلال الإسبوعين الماضيين، بفصل عبد المنعم أبو الفتوح رجل إصلاحهم، أو أردوغان مصر كما بات يعرف بين حواريه، في اللحظة التي أعلن محمد سليم العوا رجلهم الخفي ترشحه للرئاسة، فالأول تم عزله من الجماعة بعد إعلان ترشحه للرئاسة. وكاد أن يقبّل أقدام التاريخ وهو يبدو كالأبن الشارد مصمما على أنه سيأخذ أصوات الجماعة بل وصوت مرشدها حتى بعد فصلهم له، ثم أستهل الثاني( العوا) حملته بإشتباك تكفيري إقصائي لكل المطالبين بالدستور أولاً، مهندساً خطوته الأولى مع الموجة الأعتى للجماعة والسلفيين في تلويحهم بالإنقلاب على الثورة حال تراجع المجلس العسكري عن وعد إنتخاباتهم المؤمل ظفرهم بها.
عند هذه اللحظة يبدو التفاؤل بتفتيت أصوات الإسلاميين في الجولة الأولى بين ثلاثة مرشحين (ثالثهم صلاح أبو إسماعيل مرشح السلفيين) وكأنه تفاؤل البلاهة. فنزول ثلاثة مرشحين لتيار بعينه ناهيك عن كونه إغراقاً للسوق السياسي بمستنسخات تبدو الفوارق الدقيقة بينها صعبة على المستهلك المتشوق، إلا أنها أيضا تقنية تشبه كساء المجتمع بإعلان التجبر الإسلامي في مواجهة أي قوة أخرى. ففضاء المنافسة بين الثلاثة، الذي يتوقع أن يشبع بأدخنة البخور والذكر، سيدفع الكتل المغيبة أصلا من جموع الشعب المصري والمتدينة بالفطرة إلى النزول بقوة نحو سوق الإنتخابات، مع الأخذ في الإعتبار إستخدام الثلاثة حتى هذه اللحظة أسئلة مدنية الدولة وأسلاميتها دون الدخول في تفاصيل تتعلق بكونها دولة حقوق وإلتزامات مثلاً، أو دولة عدالة إجتماعية حقيقية تقوم على التناغم الطبقي مثلاً، أو دولة المساواة بين أفرادها، أو أي سؤال سياسي مستحق بعد ثورة بحجم ما أنجزه الشعب المصري .
الثلاثة" يشتغلونها" إذاً بالدين، لاهبين عصب الأقباط والليبرإليين واليسار بأسئلة من خارج المقرر السياسي، في حضور جمهور يستعجل الإجابة على غموض مستقبل الثورة التي أربكت حياتهم. أما الفوارق البينية بين المرشحين الثلاثة فلا تستحق التأمل اصلا، لأن مروجّي هذا الخلاف يستعمون أنفسهم بأنفسهم، مسلّمين أنفسهم بهذه الدرجة إلى تجاهل أن يكون فارق الدرجة بين أبو الفتوح الإصلاحي أو أبو سماعيل الجاهلي سيؤثر على شكل البلد خلال عام من الآن. "نصرة" الإسلاميين بنصر أبو الفتوح أو العوا لن يخدشها الأمل الخائب بتفعيل سياسة التفاوض مع اي منهم، لأن اياً منهم أمام النصر التاريخي المنشود منذ ما يزيد على قرن من نضال حركتهم لن يهتم بتوافقات مع ضعاف أثبتت التجربة إنسحاقهم أمامه.
الشهوة الإسلامية المستطيرة بخروجهم للعلن السياسي في لحظة ثورة لم يضحوا فيها بإصبع إبهام رفضي تؤكد منطق الوعد التاريخي الذي راهنوا عليه. فثمار لاسياسية الإستبداد المباركي دنت ويتعجلون قطفها عن حق، وما "مختبر المجلس العسكري" لتقليب المجتمع على وجوهه المنوعة إلا إثباتاً لرجاحة منطق "تقية الجحور" الذي أستخدموه لما يزيد عن نصف قرن. ومجرد تأمل تكنيكاتهم المنوعة لإفراغ الثورة من أي حقيقة إلا حقيقتهم لمدعاة لإثبات حسن جدارتهم باللقب المنتظر.
حتي هذه اللحظة هناك خمسة أحزاب مشهرة لهم: حزب الجماعة، وحزب الوسط اللا وسطي كما اثبتت الأيام، وحزب السلفيين الفزاعة الصغرى، ثم حزب العدل المكون من شبابهم المدعومين من أجهزة المخابرات، وينافسهم ثوريو شبابهم من أعضاء إئتلاف ثورة الشباب بحزب أسمه التيار المصري (يدعم أبو الفتوح رئيسا)، ثم أخيرا حزب منتظر للجماعة الإسلامية. اي أننا أمام تبلور لايثير الإنشقاق كما يري البعض، بل تقسيم عمل ممنهج بين روافد الحركة الإسلامية: بعضه يؤمم الكتلة الخرسانية الثابتة لعضوية الجماعة، وبعضه ينزل ليغرف من قاع قدر المجتمع كما يفعل السلفيون، وبعضه ينسق مع أجهزة الدولة كما في حال العدل، وبعضه يلم شراذم الشرائح اللاسياسية المبتهجة بخطاب إسلاميي الطبقة الوسطى الثوريين كحزب التيار المصري، وكل الروافد تصب في مجري وحيد هو إستنفار الوعي الديني بدرجات طيفه المتباينة للدخول في معركة مصير الدولة القادمة.
من لايتعامل مع تصريح أبو الفتوح، الذي يقول انه قد ينسحب أمام دكتور العوا أو إمكانية إنسحاب الأخير أمامه، على أنه توحيد ممنهج للطاقات تسمح به الأريحية الإسلامية غير المعنية بالمشخصن لصالح فوز الفكرة، من لايتعامل مع هذا التصريح بجدية يدفن رأسه في المجرور مستطعما الملمس والرائحة اللزجة. ومن لايحلل الهرولة الإنتهازية لأحزاب كالتجمع والوفد وباقي أحزاب النظام المباركي للتنسيق الموحد مع الإخوان، من لا يحللها على أنها ركوب متأخر في مركب المنتصر الوحيد هو مدمن لخداع النفس. فتلك الأحزاب التي مارست تاريخيا تحالفات تكنينية مع الإخوان في مواجهة النظام، تعلم أن حجزها لموضع قدم في الخريطة القديمة مع راسمها الجديد (الإخوان هذه المرة لا النظام) هو "بيعة رضوان" جديدة أمام أحزاب أفرزتها الثورة تبادلها الكراهية وتتنافس معها في الهامش الرث الذي سيتركه الإخوان، فيتبقي لها "أولوية الحجز" في "طائرة الإخوان النفاثة" بدلا من الركون لقوائم الإنتظار حلا وحيدا لذبولها التدريجي.
التيار الإسلامي لا يهّرج إذا، هو يقبل إنحطاط التراجع التاريخي لشخص كرفعت السعيد رئيس حزب التجمع من مقام من قدر وعفا، ويفتح صدره للجميع كمبارك مرددا كلمة" كلهم أبنائي". فهو قد ورث بتنويعاته الحزبية والكاريزمية الشخصية ملخصاً لتاريخ مصر الحديث. فالعوا مثلا، هو أبن الأجهزة الأمنية في عصر مبارك للتعامل مع الإخوان والسلفيين، ولا أدل على ذلك من كونه محامي أشهر رجال مبارك في محاكمات فساد ما بعد الثورة. ثم هو رجل الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين بتشبيكاته الإقليمية السياسية والمخابراتية، ثم هو الوجه الأبرز للإسلاميين المستقلين الذي يرضى المجلس العسكري عن بشاشة وجوههم، ثم هو المدعي العام في إتهام كنائس مصر بتخزين السلاح قبل شهر من الثورة، ولنتأمل كيف عبر في هذا البورتريه بين الشعبوي والرسمي والدولي والمخابراتي والتنظيري للوجه الإسلامي الجمعي، ولو صح إنسحاب أبو الفتوح أمامه، ابو الفتوح المدعوم من شباب الإخوان وإصلاحيي التيار الإسلامي، أبو الفتوح المجهول دولتيا والضحية الشهيرة لصراع اجيال إخوان مابعد عبد الناصر، ابو الفتوح ذو الحادثة التأسيسية في وقوفه أمام السادات، لو صح تعقله في الإنسحاب لاحقا، وليكن في الجولة الثانية مثلا حال وصول مرشح واحد من الثلاثة أمام عمرو موسي الشعبوي أو البرادعي النخبوي، سيصح هنا لحمة البورتريه الإسلامي المتضارب عن قصد لتجتمع البيعة في يد العوا.
لا أدعي هنا ضرورة إحكام هذا السيناريو على مستقبل مصر، لكني أشاغب به المتنطعين الهاربين من إمكانيته، فيما لا أملك تصورا لعصا سحرية توحد صفوف المتشرذمين من قوى ليبرالية أو يسارية أو مدينية للتوحد على مرشح واحد لمواجهة هذه الخطة، فحتي لو تكتل الجمع المشرزم ذو الكتلة الضعيفة تأثيرا على مجاميع الشعب خلف مرشح واحد، تبقي المحصلة فرز إستقطاب إسلامي علماني سهل حسمه في ظل إصرار الطرفين على تغييب السؤال السياسي الأهم: ماهي مصر بعد إزاحة مبارك تفصيلا لا إجمالا رمزيا، حيث في التفاصيل التي يهرب الجميع منها طوعا أو رغما يقبع الخوف من تلمس الفراغ الأصلي. الفراغ الذي يحول المعركة على جثة متعفنة إلى مايشبه إتفاق ضمني. فالشعب المصري ما زال في مكان آخر، ومهمة جلبه لإختيار مستقبله تبدو شبه مستحيلة مع رسوخ الضعف البنيوي لمكونات المشهد السياسي، فيما يتحوصل ويتأبد حكم العسكر بولادة جديدة نقلتهم من ظل الإضعاف المباركي إلى نشوة تبني ثورة. السؤال لن يجد إجابة مباشرة على ما أعتقد، والرهان فيه على نصف معجزة منتظرة، ربما تكفي لعرقلة خراب مستحكم.

السابق
ما وراء العبث بالإعلام وتضليله
التالي
في ما خصّ “الفايسبوك”