حماية صدقيّة المقاومة

نصح كثيرون حزب الله بعدم التطرق الى مسألة شبكة الجواسيس التي اكتشفت أخيراً. قال هؤلاء إنه لا مصلحة للحزب بالإعلان عن خبر، سيعمد أعداء الحزب في الداخل والخارج الى استغلاله. البعض خشي أن يشيع الإعلان إحباطاً في بيئة المقاومة، والبعض الآخر أبدى خشية من أن يؤدي ذلك الى خلق حالة من الشك داخل جمهور المقاومة أو داخل الجسم نفسه. وهناك من رأى أن الإقرار بما حصل سيستغله خصوم الحزب في لبنان من أجل اعتبار حصول الاختراق تأكيداً على أنه عرضة للاختراق من قبل، وبالتالي فإن اتهام مجموعات منه بأنها «فتحت على حسابها» وقامت بأنشطة من دون علم القيادة احتمال قوي. وثمّة من أبدى خشية من أن يؤدي الإعلان الى استغلال الفريق الماضي في اتهام حزب الله بالتورّط في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بأن هناك إمكانية لأن تكون جهة خارجية قد اخترقت الحزب وقامت بإعداد عملية الاغتيال. وعندما يتحدث هؤلاء عن جهة خارجية فهم يقصدون سوريا، ولو أن بعض النافذين في حلقة النائب سعد الحريري يضعون متهماً آخر هو جهات إيرانية بارزة.

على أن هذه النصائح أو الأنواع المختلفة من الخشية إنما عبرت عن قلق إزاء حالة فريدة من نوعها في تاريخ المقاومة. فخلال ربع قرن من المواجهة المفتوحة، لم يظهر أن إسرائيل حققت اختراقات من النوع الذي يمثّل صدمة على مستوى قيادة المقاومة أو مستويات في جسمها الجهادي، أي العسكري والأمني. وبالتالي، فإن هذا التحسّب مردّه الى أن ما حصل هو سابقة بحد ذاته. ولم يكن له ما يمكن أن يتخذ كمرجع في التعامل مع حالات من هذا النوع. لكن الجانب الآخر من خلفية هذه النصائح أو هذا النوع من الخشية، إنما يدل مرة جديدة على أن هناك أشياء عصية على الفهم في طريقة تفكير قيادة المقاومة، وكيفية مقاربتها مسائل على هذه الدرجة من الحساسية. وهو أمر لطالما كان محل نقاش حتى داخل جمهور المقاومة، وبين القريبين من حلقاتها القيادية.

وفي كل مرة، تحصل المفاجأة في طريقة التعاطي الإعلامي أو السياسي أو حتى التقني مع مسائل جديدة، وهذا ما برز في ردود الفعل على كلمة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أمس، وخصوصاً أن حديثه المباشر عن اكتشاف جهاز أمن المقاومة ثلاثة عملاء في صفوفه أو قريبين جداً منها، مثّل بحد ذاته مفاجأة لقسم كبير من مريدي المقاومة وأنصارها.
لكن، ما الذي يضطر حزب الله إلى خطوة كهذه؟
في ما قاله السيد نصر الله أمس، قسم من الخلفية. فهو أشار الى مسائل تتعلق بالشفافية والمصارحة والتعامل بعقل بارد مع صدمات من هذا النوع. وهو أمر يهم الحزب عموماً، ويهمّ السيد نصر الله شخصياً. لأن الذين استعادوا كلماته عن عدم وجود اختراقات إسرائيلية في جسم الحزب والمقاومة، إنما فعلوا ذلك في معرض القول بأن السيد ربما أخطأ في التصرف بدرجة عالية أو شبه مطلقة من الثقة بالنفس، وأنه عرّض صدقيّته للخطر، وخصوصاً أنه لطالما كان دقيقاً، لكنه أكثر دقة في المسائل المتعلقة بعمل المقاومة. وربما كان البعض يتوقع منه تعليقاً على هذا الأمر، ولا سيما أنه أشار إليه في مطلع حديثه عن هذا الملف.

الأهم في الموضوع، أن السيد نصر الله يعرف حجم رصيده عند جمهور المقاومة وعند الأعداء أيضاً. ولأنه يعرف ذلك تماماً، لم يكن بإمكانه الاختباء خلف إصبع، أو التحدث مواربة عن أمر كان قد انتشر مع حجم كبير من الشائعات خلال أيام قليلة وسط جمهور المقاومة. كما أنه في إشارته الصريحة الى ما حصل كان يستهدف، من جهة، الإشارة الى حجم الحرب الأمنية التي تخاض ضد المقاومة. وربما كان، لو أراد، أن يقول إن من عناصر قوة المقاومة أن العدو لم ينجح في مواجهتها إلا في تحقيق اختراقات محدودة، بينما كان عمله سهلاً في اختراق دول وأجهزة أمنية كبيرة وأحزاب ومنظمات في تاريخ الصراع مع إسرائيل. لكنه لم يفعل ذلك، بل قصد الإشارة الى أن حجم المعركة يفوق ما يقدّر كثيرون، وأن مثل هذا الاختراق إنما يعكس درجة الخشية والقلق عند أعداء المقاومة من قوتها وقدراتها، بالإضافة الى إشارته الواضحة إلى قدرات جهاز الأمن في رصد حالات من هذا النوع وكشفها، علماً بأنه لم يتطرق الى أن آلية عمل الاستخبارات الأميركية لا تشبه آلية عمل الاستخبارات الإسرائيلية، وفيها عناصر مختلفة في أعمال التجنيد والتشغيل والتواصل. وبالتالي، فإن المقاومة التي نجحت في هزّ البنية الأمنية للعدو في لبنان بصورة كبيرة جداً خلال السنوات الثلاث الماضية، ها هي تسجل نقطة مهمة في صراعها مع أعتى قوة استخباريّة في العالم.

أما الجانب الآخر من الخلفية، فيتصل بأن صدمة كهذه لا تقف عند حدود كشف العملاء وتعطيلهم وإصلاح الضرر الذي سبّبوه. إنما هي مناسبة لإعادة النظر في بعض السلوكيات، التي قد تكون هي السبب وراء تورط هؤلاء العملاء في التخابر مع الولايات المتحدة، وهم يعرفون جيداً أن أميركا إنما تقوم بالأمر نيابة عن إسرائيل، لأن أخطر ما في الحكاية هو الأسباب والدوافع التي تجعل مقاومين يرتكبون مثل هذه الجريمة. المشهد سبق أن رآه كثيرون في أماكن أخرى، لكنه جديد على حالة حزب الله… حيث السؤال الأهم: كيف نعطّل هذه الأسباب مسبقاً؟

السابق
لا حدود لحقد نظام الأسد على الحريريّة
التالي
هل يقع لبنان في فخّ تهريب الثروات من سوريا؟