الوجه الآخر للفيسبوك

عصفت بنا رياح شبكات التواصل الاجتماعي من الغرب منتصف العقد الماضي فاستقبلها بعضنا بقلوب وعيون مفتوحة وأدار معظمنا ظهره من منطلق أنها صرعة جديدة لن يطول أمدها. فالناس منشغلون بأعمالهم اليومية وهم بغنى عن وسيلة جديدة لإضاعة الوقت، خاصة أن جمهور الـ «فيسبوك» الرئيسي كان من المراهقين وهمهم الأوحد التواصل مع أصدقائهم.

بفضل «فيسبوك» انتقل تجمع المراهقين من ساحة الضيعة إلى «جدران فيسبوك»، فلكل مشترك مايسمى «وول» أو «جدار» حيث تدور الثرثرة. لكن في عالم «فيسبوك» كلٌّ يثرثر على نفسه فيحدِّث أخباره ليقرأها الأصدقاء ويعلّقوا عليها، وغالباً ما يرفق المشترك هذا التحديث بصور فوتوغرافية للمناسبة قد يرسلها أحياناً من هاتف محمول في ما يسمى بعملية «موبلود». مثلا كتبت صديقة ابنتي البارحة تحديثاً على صفحتها في «فيسبوك» مضمونه أن موسيقياً غريب الشكل والأطوار أخافها وهي تمشي في شوارع المدينة، خاصة أنه كان يحمل جرذاً على كتفه. وأرفقت صورة لهذا الموسيقيّ الغريب كانت التقطتها من هاتفها المحمول مرسلة المعلومات إلى صفحتها على «فيسبوك» ثوان بعد هذا اللقاء الغريب. وصلت الصديقتان إلى البيت بعد نصف ساعة وهرعتا الى جهاز الكومبيوتر لتجدا نحو خمسة تعليقات من الصديقات حول «الحدث». فالشبكة على تواصل طوال الوقت سواء داخل البيت أو خارجه.

النجاح الباهر الذي لاقاه موقع «فيسبوك» حفَّز العديد من الشركات على أن يأحذوا فولدت شبكة «تويتر» الشقيقة الصغرى لـ «فيسبوك» بعد نحو عامين، ما زاد عدد رواد هذه الشبكات ومستخدميه، الذي أسال بدوره لعاب الشركات التي تسابقت للإفادة من تلك السوق التجارية الجديدة. استجابت إدارة «فيسبوك» الى هذه لهذه الحاجة الجديدة فافسحت المجال لإنشاء الصفحات الخاصة بالمؤسسات التجارية والفنانين والقضايا الاجتماعية والسياسية، وفيما حددت عدد الـ «أصدقاء» على أي صفحة شخصية بخمسة آلاف» صديق» لم تحدد عدد المشجعين للصفحات المختصة. المغنية الكولومبية، اللبنانية الأصل، شاكيرا، مثلاً، احتفلت هذا الشهر بوصول عدد المعجبين على صفحتها الخاصة على «فيسبوك» إلى ثلاثين مليون معجب. ونتيجة هذا البعد التجاري للشبكة بدأت إدارة «فيسبوك» تسوّق صفحات مستخدميها لأغراض تجارية.
 
كل مستخدم يزور أي صفحة، سواء كانت شخصية أو مختصة، يشكل دخولاً دعائياً محتملاً لشركة «فيسبوك». القاعدة المتعارف عليها تقوم على تقدير القيمة الدعائية لكل ألف زائر الكتروني بنحو ثلاثة دولارات كحد أدنى تقريباً، ما يدر ملايين الدولارات يومياً على جيب مارك زوكربرغ مؤسس «فيسبوك» وشركائه، إذا انطلقنا من المعادلة الحسابية التي تفيد بان مئتين وخمسين مليون مستخدم يستعملون «فيسبوك» يوميا بحسب أحصائيات الموقع نفسه. إذن، كل نتاج الناس الفكري الذي يدخل صفحات «فيسبوك»، أي ما نكتب أنا وأنت على صفحاتنا الخاصة يشكل المواد الأولى لزيادة ثراء السيد زوكربرغ وشركائه، ما دفع الحكومة الفرنسية الأسبوع الفائت إلى منع استعمال كلمتي «فيسبوك» و»تويتر» في النشرات الإخبارية تفادياً لإثراء هاتين الشركتين على حساب غيرهما من الشركات. مثلاً، عندما زرت صفحة «فيسبوك» المختصة بتأجيج الأعمال الإرهابية في سورية وجدت دعايات للسيارات والكاميرات وغيرها، ومن قال أن الإرهابيين لا يتبضعون خلال استراحة المحارب خاصة أن الدعم المادي لهم يأتي من دول النفط ومن أردوغان؟

أما ميزة «فيسبوك» التي جعلت منه بدعة العصر فهي صناعة الثورات. كم سمعنا بدءاً بالاضطرابات الأخيرة في إيران عقب الانتخابات الرئاسية قبل بضع سنوات، وصولاً إلى الانتفاضات الشعبية العام الجاري في تونس ومصر، بأن سر زخم هذه التحركات وحسن تنظيمها وسبب نجاحها أحياناً يعود إلى شبكات التواصل الاجتماعي. هذا صحيح جزئيا، لكن تلك الثورات والتيارات السياسية الجارفة التي تجد في «فيسبوك» أرضاً خصبة لنموّها لا تنطلق من الصفحات الشخصية بل من الصفحات المختصة التي يروج لها بشكل او بآخر على شبكات التلفزيون الاميركية والفضائيات العربية، لينضم إليها لاحقاً مئات الآلاف من المستخدمين شرط ألا تضرّ بمصلحة «إسرائيل».

الدليل على ذلك أنه عندما أنشأ بعض المستخدمين منذ شهرين ونيف صفحة مختصة لإطلاق الإنتفاضة الثالثة في فلسطين المحتلة التي ما لبثت أن ضمت مئتي ألف مؤيد، قامت إدارة «فيسبوك» بإغلاقها تحت ذريعة معاداة السامية أو ما شابه. إذن، الحرية الفكرية مسموحة على «فيسبوك» شرط ألا تمسّ «إسرائيل».

«فيسبوك» أو «كتاب الوجه» إذا ترجمنا الكلمة عن الإنكليزية، إسم على مسمّى، فهي شركة بعدة وجوه، منها المشرق عندما يتواصل الأصحاب بعضهم مع البعض الآخر، ومنها المقزّز عندما تستغل إدارة الشركة صفحات الناس وعصارة إنتاجهم الفكري ومآسيهم لإثراء أصحابها، ومنها البغيض عندما تكيل إدارة الشركة مفهوم حرية التعبير بمكيالين.

السابق
ما بين الأعناق والأعماق
التالي
عشرون تلميذاً من مرجعيون إلى باريس