مسنّون في عيد الأب

في مستشفى «دار العجزة الإسلاميّة» تخبرنا المساعدة الاجتماعيّة أنه لا فائدة من سؤال الآباء عن عيدهم الذي يصادف اليوم. فالاحتفال بهذا العيد أمر حديث العهد في رأيها، وليس له مكان في ذاكرة مسنّي الدار. لكنها قد تفاجأ إن علمت أنّ الآباء في دار العجزة يعرفون جيداً هذا النهار، بل ويتمنون سرّاً أن يفاجئهم أولادهم بقالب حلوى، أو حتى بمعايدة تجعلهم يشعرون بقليل
من التقدير

في صالون «دار العجزة» يحاول المسنّون مشاهدة التلفزيون. بينهم من يجهد للتركيز على ما تقوله مذيعة الأخبار، رغم الصمت السائد في الغرفة، بينما تجد آخر منزوياً على كنبة يقرأ القرآن. تقترب من أبو عبد، الذي يجلس منفرداً على كرسي لتسأله عن عيد الأب، فتجده متلهّفاً للموضوع. يتوقّع، ككلّ عام، احتفالاً صغيراً وهدية ماليّة يقدّمها إليه أولاده، لكن الصورة ليست مماثلة لدى جميع الآباء، إذ إنّ أبو محمد وأبو علي يعرفان أنّهما سيمضيان هذا النهار منسيَّين، تماماً كباقي الأيام. أبو علي يبدو الأكثر حنقاً حين تذكر عيد الأب أمامه. تجلس بقربه فيسارع إلى الإمساك بخيوط الحديث، محاولاً أن يحدّد وجهته.

يحدّثك عن ماضيه كملازم في الجيش وعن الرصاصة التي أصابته في رجله وهو في «معركة مع اليهود». يكشف عن رجله ليرينا مكان الرصاصة، ثم ينتقل إلى يديه حيث وشم بالحبر الأزرق، على يمناه، سيف الإمام علي مع جملة «لا فتى إلّا علي ولا سيف إلّا ذو الفقار»، وتحتها اسمه تحسّباً لإصابته في أرض المعركة. أمّا على يسراه، فوشم لنسر العلم المصري، من الابتسامة التي ترتسم على شفتيه تعرف أنّه أمضى هناك أفضل أيام حياته في تجارة الذهب، وإلى جانب النسر وشم امرأة يقول إنّها «العائلة». يستفيض أبو علي في كلامه ليسرقك من السؤال عن عائلته، الذي يعلم رغم ذلك أنّه قادم لا محالة. يطأطئ الرجل رأسه ويهزّه طويلاً قبل أن يجيب عن سبب وجوده في الدار منذ خمس سنوات، ثم يردف قائلاً: «مغلوبين ولادي، مغلوبين». يحاول أن يشرح لنا أنّ ابنته التي أنجبت ثمانية أولاد، وابنه مع أولاده الستة، لا قدرة لهما على الاعتناء به. مع ذلك يخبر القصّة بكثير من الحزن والعتب على ابنه الذي يزوره مرة كل شهر أو حتى شهرين، وابنته التي لا تزوره أبداً. حين تسأل أبو علي عن معنى عيد الأب بالنسبة إليه يقول: «كل ما يعنيني اليوم، هو أنّ هناك من يطعمني ويساعدني على الاستحمام في الدار، ومن ينظّم لنا رحلات إلى خارجها. هذا هو المهم». يستعيض أبو علي عن غياب ولدَيه بكتاب قرآن يساعده على تخطّي وحدته، وبالإيمان أنّ هناك من يسانده.
في طرف الغرفة الثاني يجلس أبو محمد. عندما نقترب منه، يخفض صوت مذياعه. يخبرنا أنّه لا يستمع سوى إلى إذاعة «القرآن الكريم» طيلة النهار، فهو الآخر لا عائلة تحميه أو تهتم به. كلامه مطعّم دائماً بالحديث النبويّ وبعض الأشعار التي حفظها غيباً، يستعين بها كشهادة ليؤكّد صدق كلامه. يُعدّ أبو محمد من القدامى في دار العجزة، فهو دخلها منذ سبع سنوات على أثر حادثة تعرّض لها في عمله، لكنه يتمتّع اليوم بصحّة جيدة رغم أعوامه الستة والسبعين. يفاخر الرجل بذلك ويردّد دوماً أنه «متطوّع» في الدار. فهو يقضي نهاره في مساعدة من يحتاج إليه، ومعاونة الممرضين في خدمة «أصدقائه»، كما أنّ وضعه الصحي الجيد جعله يحظى بميزة الخروج وحده، لكن أبو محمد لا يحسن نسيان أيام عمله في الخردوات. ففي كلّ أسبوع تضبط «شرطة الدار» المؤلّفة من الممرضين، مجموعة من عبوات المشروبات الغازيّة إضافةً إلى أغراض أخرى يجمعها خردة في خزانته، ليبيعها أحياناً خارج الدار.
حين يخرج، لا يزور أبو محمد عائلته إلّا قليلاً. وحين نذكرها أمامه يتذكّر الآية القرآنيّة «يا أيها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوّاً لكم فاحذروهم». يقول إنّ زوجته كانت السبب في ابتعاد أولاده الثلاثة عنه. ويضيف إنّ علاقته بأولاده كانت جيدة إلى أن قرّرت زوجته تركه بعد خسارته منزله وسيارته. «رحلت وأخذتهم معها ودخل الشيطان رؤوسهم». حين أصيب في العمل أدخلوه دار العجزة، «حيث لا يأمل أحد أن يجد نفسه في خريف العمر» كما يقول. ماذا ينتظر أبو محمد في عيد الأب؟ يضحك بمرارة ويلوّح برأسه مردداً: «هذه ليست بمشكلة، لا أريد شيئاً. المهم أن يرضى رب العالمين عني».
لم يهجر كل الأبناء آباءهم في دار العجزة. يتمدّد أبو عبد الله في سريره وهو يتحدّث شارحاً أنّ رأسه يؤلمه. كبر سنّه جعل الأمور تختلط عليه قليلاً. فعندما تسأله عن أولاده يجيب بأنّ لديه «أولاداً كثراً، 50 تقريباً». هو يضيع بين أولاده الأربعة وأقربائه الذين يزورونه. يتذكرهم طوال الوقت لينسى وحدته في الدار، إذ لا أصدقاء كثيرين لديه هنا، لكنه يمضي وقته في لعب الطاولة والداما والدومينو. هكذا يبتهج عندما يتذكّر العالم الخارجي ويتحمّس لفكرة الاحتفال. هو متأكد أنّ أولاده وأقرباءه سيأتون جميعاً لزيارته اليوم، لكنه لا يعرف بعد ماذا سيحملون له معهم. وحده ابنه الكبير الابن «العاق» بالنسبة إليه، فهو الوحيد الذي لم يزره خلال سنة ونصف سنة، هي فترة إقامته في دار العجزة.
أبو عبد هو الآخر ينتظر يوم عيد الأب. يشرح، وعيناه تدمعان، كيف أنّ أولاده سيزورونه اليوم مع قالب حلوى ومعجّنات وهديته المعتادة: مبلغ من المال.
رغم ذلك، الحديث معه ليس سهلاً، لأنه يبدو على وشك البكاء. فهو حديث العهد نسبياً في الدار، إذ لم يقض فيها حتى اليوم أكثر من ستة أشهر. يقول إنّه نُقل إليها بعد إصابته بمرض الباركنسون ووفاة ابنته الكبرى. تحسّنت صحّة أبو عبد، لكنه مع ذلك لا يبدو أنه اكتشف بعد سبب نقله إلى الدار، إذ يقول إنّه كان سيرتاح أكثر في منزله. هكذا يبدو معظم الآباء في دار العجزة الإسلامية، غير مقتنعين بسبب انتقالهم إلى الدار رغم تفاوت اهتمام أبنائهم بهم. فهل يحظى هؤلاء ولو بمعايدة صغيرة، لا يتمنّون غيرها، في هذا العيد؟

السابق
جنبلاط: الأميركيّون ينتقمون من سوريا عبرنا
التالي
تسريب أسئلة علم الاجتماع والأساتذة يعترضون