الجديد والمفصلي في خطاب الأسد

خاتمة خطاب الرئيس السوري بشار الأسد هي المفتاح الأبرز لفهمه. قال إن «رأس الأفعى قد قُطع قبل أن تلدغ الجسد السوري كله»، وإن «سوريا بخير». يُفسِّر هذا الاطمئنان الأمني اللهجة الحازمة التي تحدث بها حيال المخربين والتكفيريين والمؤامرات والجراثيم. ويفسر أيضا تجاهل المعارضة التي لم يرد ذكرها إلا مرتين في الخطاب، وعلى نحو عابر.

أوحى الأسد بأنه يستعيد زمام المبادرة الأمنية. بدا أكثر راحة من خطابيه السابقين. ضحك مرات عديدة. كثّف العبارات المركِّزة على الشعب. سعى لأن يكون أكثر قربا من جمهور الشباب الجالس أمامه. بدت صورته عبر الكاميرات الكثيرة المضافة هذه المرة إلى القاعة مناقضة تماما لوجوم الوجه في الخطاب الأول. ولأنه ارتاح أمنيا فلا بأس أن يصل الكلام هذه المرة إلى حد احتمال تعديل الدستور أو تغييره.

كل التوصيفات ممكنة لهذا الخطاب. يمكن أن يقال عنه خطاب انفتاحي وإصلاحي، تماما كما يمكن أن يوصف بالاستئصالي والأمني والردعي. يمكن أن يكون خطابا سياسيا بامتياز، وإنذارا عسكريا بامتياز أيضا. هو باختصار كل ذلك، وأريد له أن يؤكد قوة الدولة وأن الدولة القوية هي التي تقوم بالإصلاح وليس الضغوط المعارضة أو ضغوط الخارج.

يبدو أن الأسد لا يختار جامعة دمشق التي تعلّم فيها وعاش على مقاعدها 6 سنوات، إلا في الحالات الحاسمة. يختارها حين يعتقد أن سوريا تتعرض لمؤامرة كبيرة، فيتوجه مباشرة للشعب والشباب. خطابه السابق في الجامعة نفسها يعود إلى العام 2005، وقال آنذاك «إن بعض القوى الكبرى تريد تصفية حساباتها مع سوريا… وإن سوريا تدفع ثمن تقاسم مصالح هذه الدول». وفي ذاك الخطاب قال عبارته المثيرة عن فؤاد السنيورة إنه «عبد مأمور لعبد مأمور» ذلك أن لبنان كان قد حاز على الجزء الأكبر من خطاب الأسد الذي قال آنذاك إن «لبنان ممر ومصنع وممول لكل هذه المؤامرات».

الكلام عن المؤامرة تكرر في خطابه الحالي، ولكن لبنان غاب. لم يغب لأن سوريا باتت مطمئنة إليه، وإنما لأن الأسد أراد لخطابه الجديد، وهو الثالث له منذ بدء الاضطرابات بعد خطابيه أمام البرلمان والحكومة، أن يركز على الداخل والإصلاحات ليؤكد انه جاد في إصلاحاته، ولكن الإصلاحات بحاجة إلى أمن قوي ودولة قادرة على الملاحقة والمعاقبة.
ما هو الجديد في الخطاب؟

÷ هذه المرة الأولى التي يشير فيها الأسد صراحة إلى احتمال تعديل الدستور أو وضع دستور جديد. هذا أمر بالغ الأهمية لجهة تعديل أكثر المواد الدستورية مثارا للخلاف بين السلطة والمعارضة، المادة 8، التي تحصر بحزب البعث قيادة الدولة والمجتمع.
÷أوحى الأسد بانعدام إمكانية الحوار مع الإخوان المسلمين حين تحدث عمن «يقتل باسم الدين ويخرّب باسم الإصلاح»، وأشار إلى «أصحاب الفكر المتطرف والتكفيري» والى «من ينتمون إلى عصور غابرة»، معتبرا أن هؤلاء هم الأكثر خطورة بين مكونات الأزمة الحالية في سوريا. هل قصد كل «الإخوان» أم فقط الجزء المتطرف بينهم؟ فهو لم يتحدث عن نموذج إسلامي جديد وإنما عمن خبرتهم سوريا منذ عقود. هل يقصد فقط السلفيين أم «الإخوان» أيضا؟ ربما الاثنين. وقد جاء رد المراقب العام للإخوان المسلمين رياض الشقفة ليعبر تماما عن هذا الانسداد. هذا الانسداد لم يمنع الأسد من بعث رسالة مطمئنة إلى الجمهور السني خصوصا في حماه وادلب وغيرها، حيث وعد بوضع حد للظلم القضائي والأمني والوظيفي الممتد منذ الصدام مع «الإخوان» في ثمانينيات القرن الماضي.

÷أكد الرئيس السوري أن الأولوية لا تزال للأمن عندما تحدث عن «جراثيم» المؤامرات وعن «مخربين»، ودعا إلى عزلهم، وتوعد بالمعاقبة والملاحقة لكل من حمل السلاح وقتل. أراد التشــديد على أن الدولة لا تزال قوية.
÷العبارات التي استخدمها الأسد لتوصيف الفساد، تتقدم على كل توصيفاته في خطاباته السابقة، هذا كلام مهم، خصوصا أن ثمة من انتقد خطابه السابق حين قال إن الفساد انتهى. يبدو انه أسيء فهم الخطاب السابق، فكان من الضروري التركيز على أن المعركة ضد الفساد ليست من باب المجاملة. ولعل ما حصل مع رامي مخلوف في الأسبوع الماضي عنوان للمرحلة المقبلة.

÷أعلن الأسد عن مواعيد ثابتة لبعض المطالب الإصلاحية الملحّة وحدّد مواعيد لبعض القوانين واللجان (مثلا لجنة قانون الأحزاب). تحديد المواعيد مهم، ذلك أن منتقدي الأسد يقولون إنه يتحدث عن الوعود منذ سنوات ولكن لم يتم التنفيذ. يراد لهذه المواعيد أن تقدم مادة دعم مهمة للمدافعين عن سوريا (روسيا والصين مثلا) أو أن تكون ردا على متهمي دمشق بالمماطلة (تركيا، أميركا، أوروبا… وغيرها).

÷يتضح أن لقاءات الرئيس مع الوفود الشعبية سمحت له بالاطلاع على تفاصيل مهمة لجهة تدخل الأمن بإدارات الدولة وحياة الناس، ويبدو من خطابه انه عازم على محاربة ذلك. يقول: «سننطلق من تنظيم الصلاحيات وضبط الممارسات وبالتالي منع التداخل في عمل المؤسسات من قبل مؤسسات أخرى أو من قبل أشخاص من داخــل الدولــة أو خارجها». أشار إلى منع الوســاطات. هو يقصــد هنا العزم على وقف تدخل الأمن بإدارات الدولة، وهذا مطــلب شعبي أساسي.

÷الكلام عن المعارضة لم يكن أساسيا في خطاب الأسد. يفهم من الخطاب أن الحوار الوطني لن ينحصر بالمعارضة الداخلية، وإنما سيكون مفتوحا على جميع أطياف الشعب السوري، وهذا يعني أن لا مكان لمعارضي الخارج، وان ثمة أطيافا أخرى في هذا الشعب أكثر أهمية من رموز المعارضة. من المهم التذكير هنا بنظرة الأسد إلى معارضة الخارج، فهو كان قد قال في خطابه عام 2005: «إني لا أسمــح لأحد بأن يرفع صوته من الخارج ونســميه وطنيــا». ربما لا يزال عند فكرته هذه.
÷أراد الأسد لخطابه أن يحمل عناوين الحزم الأمني، والعزم الإصلاحي، واللغة الشعبية، ولكنه مهّد للمفاجآت المقبلة. قال إن الأزمة قد تستمر لشهور أو سنوات، وان المؤامرة الخارجية موجودة، وأعدَّ شعبه لمرحلة اقتصادية قد تكون عصيبة لا بل ربما الأخطر في المرحلة المقبلة.

ماذا يعني كل ذلك؟
يعني أن الأسد أراد أن يقول في خطابه: ها أني قدمت لكم كل الإصلاحات وتجاوبت مع كل المطالب التي تهم الشعب السوري وحددت المواعيد، ومن يريد التحرك في الشارع بعد اليوم هو إذا مخرب أو تكفيري و«صاحب خطاب مذهبي مقيت لا ينتمي إلينا». وان هؤلاء فتحوا الأبواب للتدخل الخارجــي وهم بالتالي جزء من مؤامرة، ما يعني أن المرحلة المقبلة ستكون أكثر استئصالية على مستوى الأمن وأكثر توجها صوب الإصلاح.
وأما السؤال الإصلاحي الأهم في الوقت الراهن فيتعلق بمجلس النواب المنتهية ولايته والمجلس المقبل. فقد فهم من خطاب الأسد أن المجلس المقبل هو الذي سيقرر تعديل الدستور أو وضع دستور جديد، فعلى أي أساس إذا سينتخب البرلمان الحالي؟ هل ستقبل المعارضة بذلك؟ بالطبع لا. والمشكلة مستمرة.

الخطاب بهذا المعنى مفصلي. وتعتقد السلطة السورية انه إما أن يتجاوب الداخل والخارج مع اللهجة الانفتاحية حيال الإصلاحات ومواعيدها فتتجه سوريا إلى التهدئة، وإما أن يتم رفض ذلك فيتعزز شعور السلطة بان المؤامرة كبيرة وبأنه لا بد من تشديد القبضة الأمنية مهما كان الثمن. وفي ذلك مكمن الخطر للمرحلة المقبلة.

لقد حاول الأسد طمأنة شعبه، وبث المعنويات في صفوف الجيش والقوى الأمنية والمؤيدين للنظام. هذه هي الأولوية في المرحلة الراهنة بالنسبة له. يعتقد أن ما أقرّه من إصلاحات كاف، إذا ما كان المطلوب فعلا هو الإصلاح. أما إذا شعر بان ما قاله لم يلق التجاوب المطلوب فلعله سيستمر على ما فعله في الأشهر الماضية وما قاله بالأمس: «لن أعير الاهتمام لأي شيء خارجي لا سلباً ولا إيجاباً». الأمــن أولا، ولا إصلاح من دون امن ودولة قوية. كيف سيــكون الرد؟ كل الاحتمالات مفتوحة.

السابق
تسريب أسئلة علم الاجتماع والأساتذة يعترضون
التالي
54% معدل الإشغال في بيروت خلال 14 عاماً