بين التنجيم السياسي ولعبة الشارع

قبل نحو شهر أطلت إحدى «البصّارات» على إحدى الشاشات وقالت بحزم وجزم «الحكومة لن تُشكل، ونجيب ميقاتي سيعتذر عن التأليف، وسعد الحريري عائد لترؤس الحكومة الجديدة».
حتى صباح الاثنين الماضي، كان جميع أركان قوى 14 آذار وأكثر من نصف قوى 8 آذار، واثقين تماما باجتهاد البصارة السالفة الذكر، وكانت الصدمة عندما أطل الامين العام لمجلس الوزراء بعد ظهر ذلك اليوم ليتلو مراسيم تشكيل الحكومة الجديدة التي أصبحت أمرا واقعا، سواء نالت الثقة ام لم تنل، لأن سقوط الحكومة في البرلمان هذه المرة (وهو أمر مستبعد) سيبقي ميقاتي في حالة تصريف الاعمال، ربما الى قيام الساعة.

المهم ان عمليات التبصير والتنجيم لم تتوقف منذ ما قبل سقوط حكومة سعد الحريري. واذا كان بعض الاكثرية الجديدة لا يتمنى استمرار الحكومة الجديدة من باب العتب واللوم والحرد، فإن معظم قوى المعارضة الجديدة يجزم بسقوطها في وقت قريب، وهو يطمح الى ذلك ولو على يد الحلف الاطلسي، ويأمل بأن يسبق ذلك سقوط النظام السوري في فترة وجيزة. فحكومة «بشار الاسد وحزب الله والمواجهة مع المجتمع الدولي» ولدت ميتة في رأي هذا الفريق، مع ان الأعمار بيد الله، وفي يد الله وحده.
ما شهدته طرابلس الجمعة الماضي ليس تبصيراً ولا تنجيماً ولا ينبئ لا باللطافة ولا الطرافة. نعم، لعبة الشارع في لبنان تحمل الكثير من المخاطرة والمغامرة بالبلد. واذا كان ثمة من يحلم باستيراد الربيع العربي الى لبنان فإنه يكون «كالمستجير من الرمضاء بالنار». ومن لم يتعظ من الحرب الاهلية ومعاناتها يكن كمن يلعب لعبة «عليّ وعلى أعدائي يا رب»، وسيكون اكبر الخاسرين.

ان لعبة الشارع في لبنان هي حكاية أخرى تماما عما تشهده الشوارع العربية. وواهم من يعتقد ان استنساخ التجارب العربية في لبنان على قاعدة «الشعب يريد إسقاط النظام» (أو الحكومة)، يحقق مكسباً لفريق معين على الحكومة الجديدة، لأن النظام في لبنان ليس رئيساً ولا حكومة أو سلطة أو عائلة. النظام في لبنان حالة جامعة يعبر عنها «دستور أعوج» يحتضنه الجميع، وتمثلها سلطة مؤقتة ومعارضة موسمية. ولم يسبق أن أدت لعبة الشارع في لبنان الى خلخلة النظام أو المسّ بجلاله، بل غالبا ما كانت تفضي الى حروب أهلية تأكل من رصيد الفقراء، وهو ما حصل ويحصل في طرابلس بين حيّين معدمين يتنافس كل منهما على أي منهما أكثر فقرا من الآخر. ولا يخفى على أحد في لبنان والخارج ان السلاح ليس محصورا في يد الدولة، فلكل شارع سلاحه ومقاتلوه و«قبضاياته».

يبقى ان ثمة هامشا واسعا جدا بين ظاهرة التنجيم السياسي ولعبة الشارع. فالتحديات التي تواجه حكومة ميقاتي في السياسة والأمن والاقتصاد والمعيشة، هي أمضى سلاح في يد المعارضة، ويُستحسن لها أن تلتزم القاعدة التاريخية التي تقول: «نصف الناس مع الحاكم اذا عدل»، فكيف اذا لم يعدل، والانتخابات النيابية على الطريق؟

السابق
دعوة للحوار
التالي
احتفالات وتخريج طلاب في مدارس الجنوب