أمين ووليد… ونجلاهما: إنه ليس زمن الانقلابات

سمة الرجلين «الزئبقية» وقدرتهما على التسلل، خلسة، من خندقيهما، قد تكون جسر العبور الذي يلتقيان عنده، إلقاءً لحمولة تحالفاتهما الزائدة. أمين الجميل ووليد جنبلاط المتكئان على ماضٍ دموي مشترك، يجدان دوماً في اللحظات الحرجة، ما يقلّص من خلافاتهما، ويرفع من منسوب تفاهماتهما. ينتفض الأول على معسكره الآذاري، لعقد جلسة مخالفة للسير السياسي. أما الثاني، فيتعشى مع خصمه «الجميليّ»، ليجد بعد أقل من أسبوع في مجلس «السيد» حليفه الجديد ـ القديم.

أسلوب «الشيخ» و«البيك» مختلف كلياً: الأول، يدور حول التعابير بخفّة ودبلوماسية وينقلب على خياراته من دون رفة جفن. الثاني «انتحاري» في خطابه، ولكنه عاقل في خياراته وصار يحسبها «على النقطة والفاصلة» بعد خطأ الحسابات التي كادت تؤدي الى تدهور حافلته عشية السابع من ايار 2008… ولكن بين عقليهما التسوويين، حقل مغناطيسيّ يجذبهما، بين الحين والآخر، نحو بعضهما البعض، وهي حالهما منذ عهد أمين الجميل في العام 1982 بكل طلعاته القليلة ونزلاته الكثيرة.

زعيم المختارة كان محتاراً في مسيرته: لا هو قادر على مجاراة حلفائه الجدد في «كسلهم الحكوميّ»، وفي «حردهم السياسيّ»، ولا بمتناوله خريطة واضحة لمسار المنطقة الثوريّ، قد تلهمه في «تثبيت» خياراته المحلية، وإن كانت قاعدته الحزبية والطائفية مشدودة بأغلبيتها الى «ربيع دمشق» وبعضها صار يربط كلّ أحلامه وطموحاته بحلول هذا الربيع، عاجلاً أم آجلاً. أما «القيم» على الصيفي، فتزعجه الاستدارة العمياء لبعض الحلفاء المسيحيين باتجاه واحد: سعد الحريري، لكنه يخشى الانتفاض على رفاق درب السنوات الست، ويخاف «الغربة» والأهم فراغ «القجة»…

كلاهما مدركٌ لمأزق الآخر، وحاجته إلى التنفّس خارج «بحره». لا مانع من «كيد العزّال»، أو «زكزكتهم» على الأقل. ولا ضير من فتح مسارب جديدة، فلربما «خلق الله ما لا يعلمان»: الانتخابات النيابية صارت على مرمى حجر، والخوف من تجرّع كأسها المرّ. «البيك» موجوع من الخاصرة الزرقاء الرخوة في اقليم الخروب، ويخشى التمدد «البرتقالي» إلى عقر داره، فيما يطمح إلى تطويق التسلل «القواتي» إلى جبله. فعلا انها معادلة معقدة.

«الشيخ» مهدد في مواقعه النيابية، لا سيما تلك التي قدّمت على طبق التحالف مع قوى الرابع عشر من آّذار، ويخاف «التعرية» إذا ما كرر «التسونامي العوني» ذاته، على وقع «الزلزال الحكومي» الذي كرّس ميشال عون «زعيماً» في «جنّة» السلطة الهجينة وغير المتماسكة.

عند هذا التقاطع، كان من السهولة تخطي حاجز «الرشقات الجنبلاطية»، الموزّعة يمنة ويسرة، والتي لم توفّر بكفيا من قصفها، للقاء «العائلتين» على مائدة كليمنصو. حليفا الأمس وخصما اللحظة، يعبران حقل الألغام ليتبادل «اولاد العائلات» الخبز والملح. مشهد ارستقراطي بامتياز، يكرّس الانتقال السلس للإرث السياسي من الأب إلى الابن، من وليد الى تيمور ومن أمين الى سامي، كما توارثاه من كمال وبيار: خصومة لدودة، تترك لخط الرجعة فسحة، وإن كانت لم ترتق في التاريخ الحديث إلى مرتبة الحلف الثنائي.

عبء النزاع المحمول على كتفيّ التاريخ من جيل إلى آخر، غاب تلك الليلة عن «عشاء العمل»، وإن بدا طيفه فوق رؤوس الحاضرين: هشاشة التحالف الوحيد الذي خاضه كمال وبيار عام 1959، وعبّر عنه بيان مشترك، تنذر جيليّ التقدمي والكتائب بأنّ جلوسهما على طاولة واحدة، ظرفيّ… وغير ثابت. توتر ما بعد «الحلف الثلاثي» يتحوّل إلى نزاع عسكري في زواريب الحرب الداخلية، فكانت بينهما «الحركة الوطنية» و«الجبهة اللبنانية»، الفلسطينيون، وامتيازات مسيحيي النظام. لقاء يتيم بين كمال وبشير، حصّنته كيمياء نشأت بينهما، ولكن لم تعمّر طويلاً. في تلك الجلسة، دخل محسن دلول على «البيك» ليخبره أن القوات السورية عبرت نقطة المصنع، فتوجّه إلى ضيفه بالقول: لقد نُسف الاجتماع.
يومها أيضاً تعرّض موكب بشير في طريق العودة إلى الأشرفية، إلى كمين نصبته فرقة «التيوس» التابعة لـ«الوطنيين الأحرار» اعتراضاً على خطوته الأحادية. على أثرها شعر الشاب الصاعد، أنه لا بدّ من توحيد البندقية المسيحية، قبل محاورة الآخر. في بداية الثمانينيات حاول الرجلان إنعاش التواصل بينهما، عبر سمير فرنجية ممثلاً «البيك» وزاهي البستاني ممثلاً «الكتائب»، ولكن لم يثمر لقاءً مباشراً. لم يلتق بشير ووليد إلّا ضمن «هيئة الانقاذ» التي شكّلها الياس سركيس، من دون أن يتمكّنا من إحداث ثغرة عميقة في جدار العلاقة.

مع أمين رئيساً للجمهورية، كان «الجنبلاطي الثاني» ضمن تركيبته الحكومية، ولكن العلاقة الثنائية لم تتقدّم انشاً واحداً. سقطت في أتون «حرب الجبل»، ثم انتعشت نسبياً بفعل لقاءات لوزان وجنيف. على أثرها تعرّف الزعيم الدرزي على قرى المتن الشمالي، وبكفيا تحديداً. في منفاه الباريسي، لم يستقبل منزل رئيس الجمهورية السابق، الزعيم الاشتراكي الذي زار مراراً العاصمة الفرنسية من دون أن يطرق أبواب «الشيخ».

وما غاب في الحرب، حلّ في السلم: تبادل للزيارات بين الجميل وجنبلاط، من بكفيا إلى المختارة، توّجت بتوقيع وثيقة ميثاقية… بقيت حبراً على ورق، لم ترفد بجرعات تواصل حزبيّ تعزز لحمة مُثقلة بجراح الماضي.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الرجلين نجحا في الاحتفاظ بقنوات تواصل هلامية: اتصال من هنا، تهنئة من هناك… كتاب بالبريد السريع من هنا وزجاجة نبيذ عابرة للمناطق من هناك. وإذا كان زعيم المختارة يستسهل إطلاق النار على واحد من قادة «الجنس العاطل» الذي خاض معه «ثورة الأرز»، فإن الأخير يستصعب ردّ الصاع صاعين، لا بل يكتفي بمعاتبة حليفه السابق… وبالسرّ، أفضل من العلن.

في «الخندق الآذاري»، التقى الزعيمان لأكثر من أربع سنوات تحت «الخيمة الزرقاء»، من دون أن يحصّنا «دفاعاتهما المشتركة»، وصولا الى حمل فادي الهبر إلى البرلمان على متن «المحدلة الجنبلاطية»، ليكون أول نائب كتائبي في دائرة عالية.
لم يكلّ الأصدقاء المشتركون من نقل بعض الرسائل اللطيفة، بين المختارة وبكفيا إثر انقلاب الأولى على «معسكر الأرز». نعمة طعمة، مروان حمادة، فؤاد السعد، والهبر، أبقوا على خيط رفيع من التواصل، لن يذهب سدى، وقد يجد الظرف المناسب لاستثماره.
حتى سامي وتيمور، وجدا ما يجمعهما، إذا ما تفرّق والداهما. العمر المتقارب، الاهتمامات، وحوارات الشباب. لقاءات دورية بعيداً عن الإعلام، تزيل بعض الشوائب التي «يقترفها» الكبار. عشاء ثنائي وجهاً لوجه في بكفيا منذ نحو ثلاثة أسابيع، يستكمل مسارا مشتركا صار عمره أشهرا، ليلتقيا من جديد في كليمنصو محاطيْن بالعائلتين، علماً بأنه كان من المفترض أن تحصل «الجمعة» في ضيافة قصر المختارة، ولكن الاعتبارات الأمنية، نقلتها إلى بيروت.

في تلك الليلة، استعرض الرجلان ونجلاهما، المرحلة الراهنة بكلّ تحدياتها الصعبة وصعوباتها القاتمة، في محاولة لاستشراف بعض الأنوار المضيئة… وتبادلا الشكاوى: لا بدّ من علاقة ثنائية ثابتة تتخطى التكتيك السياسي اليومي و«خزعبلاته». لا بدّ من «قصقصة» جوانح الاصطفافات الحادة وتدجينها. لا بدّ من صيغة جديدة تقفز فوق الخنادق من دون أن تنسفها، أو تطعن بظهرها. لا بدّ من طرح تكامليّ بين الخصوم، يساعد على ردم الهوات. إذ لا يمكن لقوى الرابع عشر من آذار ألا تعيد النظر ببرنامجها المرحلي من دون أن يعين ذلك التخلي عن ثوابتها. كما لا يمكن للأغلبية النيابية الجديدة أن تبقى أسيرة حواجز الخلافات التي تبدأ بالمحكمة الدولية ولا تنتهي بسلاح «حزب الله».

جلسة عفوية بحواراتها، لم يسبقها أي تحضير من نوع إعداد أوراق عمل، أو خطط مستقبلية. بل فضفضة «من الهمّ إلى الهمّ». الرجلان لا يرغبان بالطعن بحلفائهما، ولكن لضرورة «الجدران المقفلة»… أحكامها… ولا بأس أن يمدح الرجلان بنبيه بري ويتبادلا النصائح والمعلومات من»حزب الله» الى آل الحريري والمخاوف من «الحكيم».
تبادلا الأفكار، حول كيفية استكمال عودة المهجرين، على أسس سليمة، وتعزيز التواصل الثنائي: كلام عن زيارات للجميل إلى قرى الشوف المسيحية، أو لجنبلاط إلى قرى المتن الدرزية، وإذا تسنى اقناع البطريرك الماروني بشارة الراعي باستعراض نسخة منقّحة لزيارة سلفه للجبل، قد تكون فرصة لا تعوّض.
سوريا التي لطالما استحضرت الملف اللبناني إلى دوائرها، قسراً تارة، وطوعاً تارة أخرى، حضرت بـ«مذكرة جلب» إلى الطاولة المستديرة، من باب التوافق على مقاربة هذا الملف بـ«ميزان الذهب»: الإصلاح ضرورة والحريات حاجة، ولكن ليس من مصلحة لبنان التورّط بلعبة سورية داخلية، أو الوقوف بوجه النظام. كما كان للمشاورات الحكومية، حصّتها من الحديث: كانت الأفضلية لحكومة إنقاذ وطني، تضم الجميع تحت جناحيها، وإذ بـ«فلتة الشوط الميقاتية» تقف أمام عدسة الصورة التذكارية. من دون إغفال الإشادة بدور بري في تقريب وجهات النظر بين المعسكرين المتخاصمين.

انتهى العشاء، على أمل أن يستمر التواصل من خلال سامي وتيمور، وإن كان هناك حاجة لتسمية فريق عمل مشترك يتابع التنسيق نقابيا وطالبياً ومناطقياً. أقفلت العائلتان إلى خندقيهما… فيما بدا أن الخطوة تركت أثراً طيباً لدى بعض مراقبيها: رئيس الجمهورية، رئيس مجلس النواب، رئيس الحكومة المكلف، تنفسوا يومها بعض الصعداء. واثنان منهم اتصلا بالرجلين إشادةً بخطوتهما.

على متن تعابير تلك الجلسة، لا شيء يوحي بانقلاب أي من الرجلين على معسكره، علماً بأن رئيس الجمهورية السابق عاد وأبلغ حلفاءه بما دار بينه وبين «البيك»، من دون أن يعني ذلك أن «شغب» الأخير محاولة للالتفاف على الفريق الذي سلّمه بيده عصا الأغلبية النيابية… وبين سطورها تطل الانتخابات النيابية برأسها، ولو بخجل، لتفتح المجال أمام الفريقين لمناورة مُبكرة. بدوره «البيك» أطلع «السيد» و«دولة الأستاذ» ورئيس الجمهورية على مضمون الجلسة.
بالمحصلة يمكن الجزم، أنّه لا يمكن لأي لقاء أن يتحّول إلى جبهة سياسية إذا لم يقترن بمشروع سياسي واضح… وهو ما تفتقده جلسة «الممالحة» المسائية في ضيافة كليمنصو، لا سيما وأن الكلام مع «سيّدها»، يندفع من الماضي المرتبك، ولا يرتبط أبداً بالحاضر الغامض،… ولا يجد مستقبلا مشرقا ومشتركا حتى الآن.

السابق
من تحت الطاولة
التالي
تعيين مفتٍ لصور ومنطقتها خلال أيام