ميقاتي يواجه الحرب الشاملة بردم الشغور الحريري

لا أحد يناقش قوى 14 آذار في حقها بأن تعارض حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، بل من واجب هذه القوى أن تكون في موقع المعارضة حتى تستقيم اللعبة الديموقراطية ويعود الانتظام الى الحياة السياسية، تحت سقف المؤسسات، على قاعدة تداول السلطة.
ولكن للمعارضة أيضاً أصولها التي تجاوزها فريق 14 آذار بسرعة قياسية عندما باشر في استهداف الحكومة، بشكل عنيف ومركز، منذ اليوم الأول لولادتها، وقبل ان يتبين خيرها من شرها، بل حتى قبل أن يحفظ المعارضون الجدد أسماء الوزراء وحقائبهم الوزارية، ما جعل الحملة تبدو مبرمجة ومعلبة، انطلاقا من شعارات وإحداثيات جاهزة سلفاً ومعدة للتفجير عن بُعد، بمجرد الإعلان عن الحكومة، أياً تكن تركيبتها.

لقد درجت العادة في لبنان على إعطاء أي حكومة جديدة ما يُعرف بـ« فترة سماح» تسبق الحكم عليها، سلباً أم إيجاباً، إلا أن قوى 14 آذار، التي اتضح سريعاً أنها لا تطيق البقاء خارج السلطة، بدت فاقدة للصبر، الى حد حرق المراحل، فأصدرت أحكاماً مسبقة ومبرمة على هذه الحكومة، بعد «محاكمة عسكرية»، من دون الانتظار قليلاً لحين اختبار فعاليتها وإنتاجيتها، بل إن أعصاب المعارضين الجدد لم تسعفهم لحين صدور البيان الوزاري على الأقل، كي تتوافر بين أيديهم مادة يمكن البناء عليها.

والمفارقة ان فريق 14 آذار استهلك باكراً الكثير من ذخيرته، بعدما استخدم في الأيام الاولى من الهجوم على حكومة ميقاتي ما يكفي لخوض معركة على مدى أشهر، إذ لم يترك في قاموسه السياسي تعبيراً إلا وزج به في الحملة المتسرعة، بدءاً من القول إنها «حكومة البعث» و«حكومة جسر الشغور»، مروراً بوصفها «حكومة الوصاية وحزب الله»، وليس انتهاءً بإلصاق تهمة العجز بها…

حصل ذلك كله بعد دقائق من صدور مراسيم التأليف، والصورة التذكارية للحكومة لم تكن قد التقطت بعد، والكثير من الوزراء لم يكونوا قد تعرفوا الى زملائهم، والرئيس نجيب ميقاتي لم يكن قد دخل الى السرايا، ولجنة البيان الوزاري لم تكن قد اجتمعت…
لا يعني ما تقدم ان حكومة ميقاتي «معصومة»، ولكن التسرع كذلك في «تكفيرها» أضرّ كثيراً بمصداقية أصحاب هذه الفتوى السياسية، لأنه أظهر ان هناك قراراً متخذاً عن سابق تصور وتصميم بـ«طحن» هذه الحكومة، قبل أن تولد وبمعزل عن السلوك الذي يمكن أن تنتهجه. بل لعله يمكن الجزم أنها حتى لو ضمت في صفوفها منتسبين الى جمعية «الحبل بلا دنس»، فإن ذلك ما كان ليجنبها «غضب» تيار المستقبل الذي قرر هذه المرة إحراق دواليب سياسية وإعلامية في وجه ميقاتي، لا سيما أن طرابلس لم تعد مهيأة لـ«تسييل» أنواع أخرى من الغضب في شوارعها بعدما تمثلت في الحكومة بخمسة وزراء.

من الواضح ان قوى 14 آذار بقيادة «تيار المستقبل» قررت ان تحول حياة ميقاتي في السرايا الى جحيم، وأن تفعل كل شيء لكي لا يهنأ بوجوده في رئاسة الحكومة، وبالتالي فإن القدرات التي تملكها هذه القوى على كل المستويات ستوظف بالطاقة القصوى للانقضاض عليه ومنعه من التقاط أنفاسه، بما يكفي لإبقائه في موقع دفاعي وإشغاله بالنيران المفتوحة عليه من كل حدب وصوب، وصولاً الى تقصير أمد إقامته في السرايا الحكومية قدر الإمكان.

والى جانب الهدف المركزي المتمثل في العودة الى السلطة بأسرع وقت متاح، على أنقاض حكومة ميقاتي، يسعى «المستقبل» من خلال هذا الهجوم الشرس والمبكر الى تنفيذ ما يشبه ضربة وقائية واستباقية، لحماية رموزه الممسكين بمفاصل اساسية داخل مؤسسات الدولة وأجهزتها، ومنع أي محاولة للمساس بهم، وإلا فإن تهمة الكيدية والثأر جاهزة لإلصاقها بكل من يتجاوز «الخط الأزرق» الذي يرسّم حدود الطوائف والمذاهب في الادارة اللبنانية.

ولا يبدو فريق 14 آذار بصدد التمييز في حربه المفتوحة بين الوسطيين و8 آذار داخل مجلس الوزراء، وما بدر منه حتى الآن في خطابه السياسي يوحي بأنه يضع رئيس الجمهورية ميشال سليمان والرئيس ميقاتي والنائب وليد جنبلاط في سلة واحدة مع حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر وحلفائهم، بل ان بعض المواقف الصادرة مؤخرا عن شخصيات في «المستقبل» بيّنت ان الجيش اللبناني ذاته ليس محيّدا وانه سيوضع في مرمى النار كلما دعت الحاجة، وكأنه يُنظر اليه باعتباره جيش 8 آذار او «الاكثرية الجديدة».

وإزاء تعمد قوى 14 آذار إلغاء المسافة بين مكونات مجلس الوزراء، كان لافتاً للانتباه ان أحد أبرز الردود على حملتها جاء من سليمان الذي استغرب الادّعاء أن الحكومة تشكلت بقرار سوري، فقط لأن الرئيس بشار الأسد اتصل به لتهنئته بولادتها، جازماً بأن دمشق لم تتدخل في عملية التأليف، لا من قريب ولا من بعيد.

يبقى ان ميقاتي سيكون امام اختبار شبه يومي لمدى صلابته ورباطة جأشه في مواجهة «أم المعارك» السياسية التي ستخاض ضده، على وجه الخصوص، لتهشيم صورته في الوسط السني وإحراق الرصيد الذي استطاع تجميعه في بيئته بعد تكليفه، نتيجة تسلحه بثوابت في إدارة مفاوضات التأليف، لم يتمسك بها بالقدر ذاته الرئيسان فؤاد السنيورة وسعد الحريري.

وبرغم أن ميقاتي كان حريصاً على عدم تضمين وزارته «أسماء مستفزة» ما جعله عرضة للانتقاد القاسي من بعض شخصيات الأكثرية الجديدة، وبرغم أن حصته في الحكومة «نوعية»، وبرغم ان الرئيس بشار الأسد لم يتصل به بعد للتهنئة خلافاً لما فعله مع الرئيسين سليمان وبري، وبرغم إصراره منذ تكليفه على استعمال لغة معتدلة وربما زيادة عن اللزوم.. إلا أن ذلك كله لم يكن كافياً ليشفع له لدى فريق 14 آذار الذي أنزل الى الاسواق على الفور شعاراً رناناً، يدغدغ المشاعر، مفترضاً انه سهل التسويق في الاوساط الشعبية ويتيح تحقيق مكاسب سريعة بعد إصابة عصفورين بحجر واحد: «انها حكومة بشار الأسد وحزب الله».

لكن العارفين بميقاتي، يؤكدون ان الرجل كان يتوقع مثل هذه الحملة الشرسة ولم يُفاجأ بها، وبالتالي فهو لن ينزلق الى «حرب شوارع» مع خصومه، بل سيواجه على طريقته الخاصة التي تقوم على «الاحتواء» حيناً وعمليات «الكوماندوس» الموضعية حينا آخر.. إنها استراتيجية «السهل الممتنع» التي تشبه كثيراً نجيب ميقاتي من أجل «جَسر(ردم) الشغور» الناجم عن استقالة حكومة سعد الحريري.

السابق
عن نجيب ميقاتي
التالي
جنبلاط يزور تركيا فَروسيّا، دعماً للأسد!