عن نجيب ميقاتي

يصعب على أحد الإمساك به. ليست هذه صفة جيّدة دائماً. البعض يشير إليها في معرض النقد أو الذم. وآخرون يرونها حرفته، أو حيلته للإفلات من التزامات صعبة التنفيذ في بلد شديد التعقيد. يتوقع دائماً أن الجواب في مصلحته. لكنه في لحظات الحقيقة، يصوغ مطالبه بدقة، يعود إلى صورة رجل الأعمال الذي يحسب كل تفصيل. وهو ليس مضطراً لأن يعلن مواقفه الفعلية من كل الذي يحصل.

متّهم بأنه يقول أكثر من كلام في أكثر من مجلس، وأنه صار أكثر احترافاً في عدم استفزاز خصومه الأقوياء، وأنه يقدر على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة عبر طرق التفافيّة: شيخ من هنا، رجل أعمال من هناك، أو وسيط من الذين لا يخرجون إلى الضوء كثيراً. لكن ما يحتاج له ليعرفه عن الآخرين، من أصدقاء وخصوم، موجود لديه. نجح خلال عقد من الزمن السياسي في بناء شبكة علاقات قوية داخل الدولة وداخل المجتمع. يقدر على الادّعاء بسهولة أنه دخل الغرف الضيّقة حيث يُتخذ القرار.

ابن عائلة محافظة، تقليديّة بالمعنى المتعارف عليه لأبناء المدن. تحصيله العلمي وتدرّجه في عالم رجال الأعمال يخضعان للقوانين نفسها التي تتحكّم بنادي الأغنياء التقليديين. لكن الذي يميّزه أنه حديث، أو بالأحرى عصري، مواكب لما يجري من حوله. لا يفوته شيء من التطوّر الكبير في علوم التواصل والنموّ المعرفي. ليست ثقافته هي التي تفتح له أبواب مجالس المثقفين، لكن رغبته في تعلُّم المزيد، تتيح له الوصول إلى وقائع يراها ضرورية في عمله. ثمّة خبيث قال عنه ذات مرّة: «لا مكان في عقله لأشياء غير قابلة للاستخدام».

المغامرة عنده موجودة، لكنها أقرب إلى القفزة المحسوبة بدقّة. مستوى المخاطرة فيها لا يرقى إلى حدود تهديد مصالحه الأساسية. وفي سياق بناء الزعامة السياسية، يلجأ إلى الآليات التقليدية ذاتها: استغلال النفوذ، الثروة الشخصية، الحضور العام لمدّ شبكة تواصله مع الناس. قلّة تطلّبه السياسي من المريدين تعزّز له حضوره بين هؤلاء. يمكنه جذب كتلة كبيرة متردّدة في الانضمام إلى الاصطفاف السياسي الحاد. والوصفة السحرية لهذا المسرح اسمها: الوسطيّة.

يرتفع بقامته إلى أعلى من طموحه السياسي، لا يكشف سرّاً خارج دوائره المحسوبة بدقة: العائلة، هي مركز العقل والقلب والأذرع والقرار، وهي الدائرة التي لا يسمح لشيء بأن يصيبها بخدش. تعجب من قدرته على التسليم المطلق بقيادة الشقيق الأكبر. الرجل الذي أكلت منه السنوات والتعب والمرض، ولا يزال قادراً على تحويل نفسه إلى وعاء من الماء البارد، يقدر على احتمال كل أنواع السخونة الآتية من الأصدقاء والحلفاء قبل الخصوم والأعداء. بيده القرار الأخير، أو الكلمة الأخيرة، وعندما تعلن كلمة السر. وعلى طريقة العائلات الشامية، ما يقوله الكبير يصبح هو العنوان، ومن ثم تتحكّم التراتبية في إدارة التفاصيل.

في المسألة الوطنية، لا تقف العائلة على الحياد، ثمّة أشياء لن تقال، الله أعلم متى يمكن الحديث عنها. تعرف العائلة أن إسرائيل عدوّ حقيقي، تعرف ذلك من اعتبارات واضحة. لها أصلها الديني، حيث التربية توحي بتشدّد، لكن التجربة والمعاتبة، تظهر التزاماً دينياً مطابقاً للصورة التي يحبّها الناس عن المؤمنين الذين يؤمنون أيضاً بحق الآخرين في اعتقاد ما يرغبون. وفي هذا العالم، ثمّة موجبات لها بعدها الاجتماعي تبقى حاضرة بقوة أيضاً. يمكن مدقّقاً أن يشعر بقوة العمل الخيري، الطوعي الذي له في ما يوازيه عمل خيري، استجابة لطلب أو استغاثة.

في المسألة العربية، ينقص هذه العائلة جواز سفر سوري. ليس لهذه الدولة بحدودها القائمة، بل الانتماء الأصلي إلى بلاد الشام، تلك البلاد التي تتّسع لتشمل فلسطين والأردن وسوريا ولبنان وبعض العراق وتركيا. في هذه الصورة، لا يخشى أبناء هذه العائلة مسألة الذوبان، لا يشعرون بأنهم سيفقدون قيمهم أو قيمتهم الإضافية. لكنهم، وفي الوقت نفسه، الأكثر التزاماً بالعلامات التي تحيط الكيان اللبناني. ما يعيدهم مرّة جديدة إلى مربّع الانتماء إلى النظام اللبناني بحلّته الراهنة، تلك التي لا تعجب أحداً، ولا ترضي أحداً، ولن تقنع أحداً بأنها قابلة للاستمرار.

هو نجيب ميقاتي، شقيق طه ميقاتي، وعمّ عزمي ميقاتي، البارز في سلسلة تتحكّم ببقية أفراد العائلة، حيث للمرأة دورها القوي، الحاسم، داخل المنزل، وحيث الأولاد يحفظون عن ظهر قلب كل القواعد والقوانين.

السابق
السفير: أنقـرة، عمليـة شـاملـة يضمنـها الأسـد تتضمـن إصـلاحـات تعلـن خـلال أيـام
التالي
ميقاتي يواجه الحرب الشاملة بردم الشغور الحريري