أكثرية شمالية وتضحية شيعية..عون رابـح أول وارسلان مستقيل

وأخيراً ولدت حكومة نجيب ميقاتي واختار لها رئيسها اسم «كلنا للوطن كلنا للعمل»، بعد مخاض صعب امتد على مدى مئة وثلاثة وأربعين يوماً، إلا أن ولادتها المتأخرة لم تأت طبيعية بل استلزمت إجراء عملية قيصرية، رسخت في الحياة السياسية اللبنانية سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ تشكيل حكومات ما بعد الطائف، وأيضاً قبله بعقود، تجلـّت في كسر العرف القائم بتساوي الحصص الوزارية المارونية والسنية والشيعية في الحكومات.

ويمكن القول إن حكومة نجيب ميقاتي الثانية، جعلت من تاريخ ولادتها في الساعة الثالثة إلا ربعاً من يوم الاثنين الواقع فيه 13 حزيران 2011، تاريخاً لخروج سعد الحريري السريع من جنة السلطة وانتهاء حقبة حريرية امتدت منذ العام 2005، وتاريخاً لدخول لبنان عملياً في مرحلة سياسية جديدة، ينتظر أن تخضع لاختبارات ولا أحد يستطيع في الوقت نفسه أن يتنبأ بما ستحمله من تحديات واستحقاقات على عتبة مرحلة إقليمية جديدة.

وإذا كان عنوان الاستقرار يشكل أحد المرتكزات الصلبة التي تقوم عليها الحكومة الميقاتية، فإن الإشارة البالغة الدلالة التي اطلقها رئيسها نجيب ميقاتي من بعبدا ومن موقعه كرئيس اصيل للحكومة، بتأكيده على تحرير ما تبقى من ارض محتلة من قبل العدو الإسرائيلي، اعطت اشارة واضحة لمضمون بيانها الوزاري كما أن مسارعة الرئيس السوري بشار الأسد لتهنئة الرئيسين ميشال سليمان ونبيه بري، أعطت اشارة واضحة لمدى التلقف السوري الإيجابي لتشكيل الحكومة في لبنان، كجزء من طيّ مرحلة بناء جدران العداء بين البلدين طيلة ست سنوات مضت وتدشيناً لمرحلة جدية لبنانية من جهة وفي المقاربة السورية للملف اللبناني من جهة ثانية.

وقد شرع التأليف بفصوله الأخيرة باب التساؤلات حول ماهية «كلمة السر» التي سرّعت التأليف وخاصة «التضحية الشيعية» بالوزير الشيعي السادس، وحول ما اذا كانت تهنئة الرئيس السوري تنطوي على رسائل أراد إيصالها من صندوق بريد ولادة الحكومة اللبنانية إلى بعض الجهات الإقليمية والدولية، وتفيد إما عن وجود «صفقة ما» فرضت توليدها، وإما عن اطلاق اشارة تدشن لانتهاء مرحلة «ربط النزاع» (التكليف) والدخول في مرحلة جديدة (التأليف)، بجعل لبنان ساحة من ساحات المواجهة المفتوحة إقليمياً، على ان السؤال التقني هو ماذا حصل في ساعات ما قبل التأليف؟

بحسب مصادر واسعة الإطلاع، فإن ما حصل بالأمس هو سياق مستمرّ منذ «اجتماع الصدفة» في مكتب رئيس مجلس النواب يوم الأربعاء الماضي، حيث تمّ وضع اللبنات الأساسية لولادة الحكومة وكيفية عبور حقل الغام التعقيدات التي حالت دون ذلك، وقد تسارعت بعدها الاتصالات وتحرّك «الخليلان» بشكل مكوكي ما بين فردان وعين التينة وبعبدا والرابية، وتمكّنا من تجاوز الكثير من المطبات، ومنها عقدة التمثيل الماروني ولولا استفحال عقدة التمثيل السني وتحديداً تمثيل فيصل كرامي، لكانت الحكومة قد أبصرت النور قبل نهاية الأسبوع الماضي، وتحديداً قبل ظهر يوم الجمعة الماضي، أو السبت على أبعد تقدير.

وقالت المصادر إن الوتيرة السريعة التي سارت فيها اتصالات الساعات الثماني والأربعين الماضية، حكمها اتفاق ضمني بين فرقاء الأكثرية الجديدة والرئيسين ميشال سليمان ونجيب ميقاتي على إعلان الحكومة خلال الاسبوع الجاري، لانه سيشكل الفرصة الاخيرة ومحك مصداقية كل الاطراف، علماً ان حركة «الخليلين» لم تتوقف نهاية الاسبوع، وخاصة بعد محاولة قام بها الرئيس المكلف في اتجاه إجراء تعديل في التمثيل السني سعى من خلاله الى زيادة التمثيل السني في بيروت من خلال استبدال توزير النائب الاشتراكي علاء الدين ترو بوزير سني بيروتي، على أن تقتطع حصة مسيحية لجنبلاط من حصة ميشال عون وهي الصيغة التي رفضت من «حزب الله» والرئيس بري والعماد عون، فيما أنتج التواصل بين الرئيسين سليمان وميقاتي الأحد اتفاقاً على اجتماع بينهما في القصر الجمهوري في بعبدا صباح امس الاثنين، وبدا ميقاتي مساء الأحد متفائلاً بقرب ولادة الحكومة «خلال ساعات» كما أسرّ لبعض المقربين منه، متحدثاً عن «حكومة أمر واقع» اذا كان «آخر الدواء الكيّ».

وبحسب المصادر نفسها، فإن ميقاتي وصل الى القصر الجمهوري قبل الظهر متأبطاً صيغة حكومية ثلاثينية، وكذلك نسخة من خطابه الذي أعلنه بعد التأليف، وفور وصوله اجتمع برئيس الجمهورية، ودخلا في بحث الصيغة التي وضعها ميقاتي، وهنا بادر رئيس الجمهورية الى الاتصال بالرئيس نبيه بري ودعاه الى القصر الجمهوري، الا أن الأخير ابلغه انه مرتبط بمواعيد مسبقة، فأبلغه سليمان بان هذا الاجتماع هو اجتماع حاسم، عندها قرر بري ان يتجاوز مواعيده وارتباطاته. فيما تولى (الوزير) علي حسن خليل الذي كان في هذه الأثناء موجوداً في مجلس النواب بعد ورود اتصال اليه من عين التينة، إبلاغ «حزب الله» والوزير جبران باسيل باتصال سليمان ـ بري.

وأشارت المصادر الى ان بري وصل الى بعبدا قرابة الحادية عشرة والدقيقة الخمسين، وانضم الى سليمان وميقاتي، وتبيّن خلال النقاش ان ميقاتي قدّم صيغة حكومية من 24 وزيراً، تتضمن (تقريباً) الاسماء ذاتها التي وردت في التشكيلة الرسمية ومن دون وزراء دولة، ولوحظ ان سليمان لم يبد ممانعة حول صيغة الـ24، الا ان بري بدا منزعجاً من هذه الصيغة، لانها تنسف الصيغة الثلاثينية المتفاهم عليها، وأبلغ بري سليمان وميقاتي رفضه السير بحكومة مناقضة لهذه الصيغة الناقصة لانها تعيدنا الى المربع الاول وتعطل كل الامور، علما ان بري سبق وتبلغ من «حزب الله» قبل انتقاله من عين التينة الى قصر بعبدا رفض الحزب القاطع السير بحكومة أمر واقع.

وقالت المصادر ان سليمان كان مرتاحاً لحصته، ولم يجادل في الوزيرين المحسوبين عليه، خاصة ان الاسم الاول كان معروفاً أي سمير مقبل، فيما الاسم الثاني الماروني كشف عنه في اجتماع الامس، بينما الرئيس ميقاتي كان «محشوراً» في التمثيل السني، خاصة ان تمثيل طرابلس والشمال بات فضفاضاً، ولانه لم يكن هناك أي مجال للهروب من تمثيل الكراميين احمد وفيصل، كان همّه الأول الدخول بتشكيلة حكومية لا تنتقص من تمثيل بيروت، مكرراً أمام الرئيسين سليمان وبري أن أهل بيروت سينتفضون وأنهم سيضغطون لاستقالة الوزير السني البيروتي الوحيد وعندها تفقد الحكومة تغطية العاصمة وتصبح في مهب الريح، فماذا يفيد توزير أربعة من طرابلس ووزير واحد عن العاصمة… وفي ذروة النقاش بادر بري الى طرح زيادة التمثيل السني الى سبعة وزراء عبر تخليه عن وزير شيعي من حصته وعن حقيبة الشباب والرياضة (حصة الوزير السابق علي عبدالله)، على ان تسند الى فيصل كرامي، وفي الوقت نفسه، يصبح بمقدور ميقاتي تمثيل أحمد كرامي وزيادة حصة بيروت الى وزيرين بدلاً من وزير واحد، وهو أمر فاجأ الرئيسين سليمان وميقاتي، ودار بعد ذلك نقاش عما اذا كان هذا الأمر يشكل خرقاً قانونياً او دستورياً، الا ان بري اكد ان لا خرق في هذه الخطوة، ثم ابلغ سليمان وميقاتي، بان هذا الحل الذي اقدمه، ومن ثم غادر القصر الجمهوري وقد بدا متجهماً، وأشاع مقربون منه مناخاً بأنه سيصدر بياناً من عين التينة يرفض فيه حكومة الأمر الواقع، وفي الوقت نفسه، سرّب «حزب الله» عبر «المنار» وبعض المواقع الالكترونية، أنه لن يقبل بتشكيلة الأمر الواقع.

وبعد انتقاله الى عين التينة عقد بري اجتماعاً مع المعاون السياسي للامين العام لـ»حزب الله» الحاج حسين خليل في حضور علي حسن خليل وتم خلال الاجتماع إجراء مروحة اتصالات شملت السيد حسن نصرالله، النائب ميشال عون، النائب سليمان فرنجية، والنائب وليد جنبلاط، علماً أن المشاورات بين بعبدا وعين التينة لم تتوقف خاصة بعدما تم استدعاء امين عام مجلس الوزراء سهيل بوجي لتلاوة المراسيم، حيث ابلغ الرئيسان سليمان وميقاتي بنهائية موقف بري لناحية تخليه عن الوزير الشيعي لمصلحة فيصل كرامي، عندها تم إعلان الصيغة وفق المخرج الذي طرحه بري.

وأبلغ بري «السفير» ان احداً من حلفائه لم يكن على اطلاع في صيغة المخرج الذي طرحه كما لم يتشاور فيه مع احد. وقال انه بادر للتنازل عن الوزير الشيعي لأنه كان السبيل الوحيد للإنقاذ، موضحاً ان فكرة التنازل عن هذه الحقيبة لمصلحة فيصل كرامي، راودته وهو في الطريق من عين التينة الى القصر الجمهوري.

واذ لفت بري الانتباه الى انه لو لم يتخذ هذه الخطوة لكانت الامور توقفت وتعقدت، قال: لطالما كنت اقول ان الفريق المعني بتشكيل الحكومة هو فريق واحد، ولا يجوز ان يتنازع على حصص، وما فعلته ينسجم مع هذه المقولة ويترجمها الى حقيقة سياسية، اما لو كان الأمر يتعلق بخلاف بين اطراف متناقضة، فبالتأكيد كنت سأدقق بكل تفصيل وسأقف عند كل تفصيل.

ورداً على سؤال قال بري إن آل كرامي «هم بيت وطني ونحن نتكامل معهم في الخط الوطني ذاته»، معرباً عن ارتياحه للتشكيل لأن ذلك مدخل للانقاذ.

وحول الاسماء التي طرحها للتوزير قال بري انه قدم مجموعة اسماء الى ميقاتي الذي اختار من بينها النائب علي حسن خليل والسفير عدنان منصور.

واذا كانت قوى الحكومة الجديدة قد اعربت عن ارتياحها لبلوغ التأليف ولا سيما «حزب الله» الذي أكد أن الربح الحقيقي للبلد هو في تشكيل الحكومة بحد ذاته، وكذلك جنبلاط الذي أمل ان يشكل ذلك انطلاقة لمعالجة المشكلات الكثيرة فإن التشكيل بحد ذاته جاء مفاجئاً للوسط السياسي بشكل عام، وحمل قوى 14 آذار على استصدار مواقف اعتراضية على ما وصفوها حكومة اللون الواحد واتهامها بأنها «حكومة سورية».

على أن العلامة الفارقة التي سجلت على هامش إعلان الحكومة الميقاتية، تجلّت في مبادرة وزير الدولة طلال ارسلان الى الاستقالة من الحكومة احتجاجاً على عدم إسناد حقيبة وزارية له، فيما اقترنت الاستقالة بعمليات احتجاجية جرى التعبير عنها من قبل أنصاره الذين قطعوا طرقاً عدة أبرزها طريق خلدة ـ بيروت وطريق الحاصباني مرجعيون، وبعض طرقات عاليه، وذلك «في خطوة متسرّعة وانفعالية»، فيما وصفها الرئيس ميقاتي بالمستغرَبة، وقال: «هناك اصول لتقديم الاستقالة ومنها أن تكون خطيّة لأرفعها إلى فخامة الرئيس ومناقشته فيها واستغرب هذا التصرّف وأن يصدر عن رمز في عائلة أرسلانيّة عريقة».

وفي كلمة ألقاها بعد إعلان حكومته توجه ميقاتي بالشكر لبري، قائلاً «هذه الحكومة لم تكن لتبصر النور لولا تضحيات رئيس المجلس النيابي نبيه بري وسعيه الدؤوب».

وأكد ميقاتي «التمسك بسيادة واستقلال لبنان وتحرير ما تبقى من أرضنا من العدو الإسرائيلي والتمسّك باتفاق «الطائف»، كما أكد الحرص على العلاقات والتعاون الوثيق مع جميع الدول العربيّة الشقيقة من دون استثناء، وقال إنّ التزامات لبنان العربيّة والدوليّة «هي من الثوابت في سياسة الحكومة مع تمسكنا بقرارنا ومصلحة بلادنا العليا».

وفي السياق نفسه، قال ميقاتي رداً على سؤال لوكالة «فرانس برس» إن حصول «حزب الله» وحلفائه على أكثرية في الحكومة لا يعني أن لبنان بات في مواجهة المجتمع الدولي».

وأبلغ ميقاتي قناة «الجديد» قوله إنه سيزور مختلف المناطق اللبنانيّة ليوليها العناية المطلوبة، مشدّداً على أنّ «أوّل زيارة ستكون للجنوب وشعبه الصامد والذي هو عنوان للمقاومة».

وعلمت «السفير» أن ميقاتي سيزور اليوم المملكة العربية السعودية لأداء مناسك العمرة، على أن يعود إلى بيروت ليلاً، ويستعد لاجتماع الحكومة الأول في القصر الجمهوري صباح غد، حيث ستلتقط الصورة التذكارية ويتمّ تشكيل لجنة إعداد البيان الوزاري.

ومن المقرر أن يقوم ميقاتي بجولة عربية وخارجية يدشّنها من دمشق ولكن بعد نيل الحكومة الثقة أمام المجلس النيابي، وهو تلقى اتصالات عدة للتهنئة من عواصم عربية وأجنبية أبرزها القيادة الفلسطينية والنائب الأول للرئيس الإيراني محمد رضا رحيمي، فيما قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية مارك تونر إن واشنطن ستقيّم الحكومة اللبنانية الجديدة «عن طريق أفعالها, ومن الواضح أن هذه بداية عملية تحتاج إلى تصديق البرلمان، والمهم بالنسبة لنا هو أن تلتزم الحكومة اللبنانية الجديدة بالدستور اللبناني، وأن تتخلى عن العنف وتلتزم بكل الاتفاقات الدولية، بما فيها قرارات مجلس الأمن الدولي والتزامات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان»

السابق
اتصال اقليمي بميقاتي
التالي
النهار: حكومة الأكثرية، مفاجآت التوقيت وكسر المثالثة ورعاية الأسد