قباني:آن الأوان لخروج الشعب الصابر مطالبا بالتغيير

 القى مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ الدكتور محمد رشيد راغب قباني خطبة الجمعة في مسجد خاتم الأنبياء والمرسلين محمد الأمين، في وسط بيروت. وشارك في الصلاة رئيس مجلس النواب العراقي اسامة النجفي ورئيس كتلة المستقبل النيابية الرئيس فؤاد السنيورة وسفير العراق عمر البرزنجي والنائبان نهاد المشنوق وعمار حوري وحشد من الشخصيات.

وجاء في خطبة المفتي قباني الاتي: "الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، ونورا للسالكين، وضياء للعارفين، وهدى وبشرى للمؤمنين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بشريعته إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله: فقد روى الإمام مسلم في صحيحه (عن) أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (عن) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء"، نعم، لقد بدأ الإسلام جديدا وغريبا بين أقوام لا يؤمنون، وأقوام يصدون عنه، وأقوام يحادون الله ورسوله، ويؤذون كل من آمن بهذا الدين".

واضاف: "نعم، لقد بدأ الإسلام بين شباب ورجال من القبائل، اعتنقوا دين الله، وآمنوا به، وخالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فرضوا بكل ما يصيبهم في سبيله من ضرر وأذى، ثم أراد الله لهذا الدين أن يقوى وينتشر، حتى عمت رسالته الآفاق، وأظهره الله على الدين كله، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأصبح الإسلام أمة تفرد جناحيها على أقطار الأرض فتعمها. وقد أخبرنا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أن الإسلام، هذا الدين الذي قوي وانتشر، وعمت رسالته الآفاق، ستصيبه وتصيب أهله غربة جديدة مع تطاول الزمان، وسيصبح أهله غرباء من جديد، بين أقوام لا يبالون بالدين وأحكامه، ولقد مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فطوبى للغرباء"، أي طوبى لهؤلاء المتمسكين بدينهم بين من لا يكترثون بالدين وتربيته وأخلاقه وأحكامه، وطوبى هي البشارة، والفرحة، والغبطة التي تنتهي بالمؤمن المتمسك بدينه إلى الجنة، وبهذه البشارة تصبح غربة الإسلام والمسلم هي مناط قوة له، وليست مثار خوف وضعف، وإن كانت غربته هذه هي محاولة استضعاف له، وهو في غربته قوي بالله، يعيش حياته ورسالته بشجاعة ومحبة ورحمة، وغايته هداية المتخلفين، وانتشال الغارقين في الوحل والطين، وهو في غربته لا يستوحش من أحد، بل هو آنس ما يكون في حاله مع الله، إذا استوحش الناس لا يستوحش، وإذا خافوا لا يخاف، وإذا يئسوا لا ييأس، وهو لا يجزع من مصائب الدنيا على أنواعها إذا جزعوا، لا ينافسهم في عزها إذا تنافسوا، فعزته بالله ومع الله، للناس حال وله حال، الناس منه في راحة، وهو من نفسه في تعب، فيقينه بالله عظيم، والمؤمن الصادق حق الصدق إذا كان مع الله فلا يضيره أن لا يكون الناس معه، فوليه الله ورسوله وصالح المؤمنين، وإن عاداه أكثر الناس وجافوه، فأنسه بالله ينسيه أذى الناس، ولقلة هؤلاء الناس في الناس، ولصدقهم حق الصدق مع الله كانوا غرباء بين الناس، الناس مشغولون بدنياهم، وهم مشغولون بدينهم، وبتزكية نفوسهم كما قال الله تعالى في القرآن الكريم: "ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها" (الشمس/7-10)، الناس مشغولون بالفرار إلى الخلق، وهم مشغولون بالفرار إلى الحق، كما قال نبي الله نوح عليه السلام لقومه: "ففروا الى الله إني لكم منه نذير ومبين" (الذاريات/50)".

ورأى "ان أهل الإسلام في الناس عامة غرباء، والمؤمنون المتقون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم والمعرفة بالله في المؤمنين غرباء، والصابرون منهم على أذى الناس أشدهم غربة بين الناس، وكما قال الله تعالى عنهم في القرآن الكريم: "هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون" (آل عمران/163). ومثل الغرباء من أهل الله أيها الإخوة، مثل كل أنبياء الله، الذين بعثهم الله تعالى هادين للناس، أما كان سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام غريبا في قريش وفي قبائل العرب؟ وكذلك كان هود في عاد؟ وصالح في ثمود؟ ونوح في قومه؟ وكذلك كان المسيح عيسى عليه السلام في بني إسرائيل؟ ألم يكن المسيح عليه السلام غريبا في بني إسرائيل؟
ألا وإن نبي الله موسى عليه السلام كان غريبا في قومه من بني إسرائيل، حين خرج فارا من فرعون وجنوده، وانتهى إلى مدين بلدة نبي الله شعيب عليه السلام، وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم حكاية لحاله: "وجاء رجل من اقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملاْ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين (20) فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين (21) (القصص/21,20) ولذلك لما وصل موسى عليه السلام إلى مدين والتقى بنبي الله شعيب عليه السلام قال الله تعالى حكاية عنه في القرآن الكريم: "فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين (25) (القصص/25) وموسى عليه السلام كان في تلك الحال وحيدا غريبا خائفا جائعا، فناجى ربه وقال: يا رب، وحيد، مريض، غريب، فنودي في سره من الله: "أن يا موسى، الوحيد من ليس له مثلي أنيس، والمريض من ليس له مثلي طبيب، والغريب من ليس بيني وبينه معاملة".

واضاف المفتي قباني "والغرباء في هذا الزمان أيها الإخوة، هم المؤمنون حقا، منهم من نال الشهادة ومنهم من ينتظر، منهم من هو مهاجر ومنهم من هو في الأسر في سجون الظالمين، منهم من يجاهد في بيته وأهله ومجتمعه، ومنهم من يرابط في الثغور، ومنهم من يصلح أمر الناس، وقد أخبر الله في القرآن الكريم عن مؤمن آل فرعون لما نصح قومه المعرضين عن الإيمان، فقال تبارك وتعالى: "وقال الذي آمن ياقوم اتبعون اهدكم سبيل الرشاد (38) يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار (39) (غافر 38-39)، وروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعد نفسك من أهل القبور"، وكان ابن عمر يقول: "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن شبابك لهرمك، ومن حياتك لموتك"، وقد جاء أن للاسلام إيها الإخوة، دولة قبل قيام الساعة، وأن الله ناصر دينه مهما صار أهله غرباء بين الناس، فقال في القرآن الكريم وقوله الحق: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا (28) (الفتح 28).

وتابع: "هذه كلها أيها الإخوة، أوصاف ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم توصيفا ومدحا لهؤلاء الغرباء بدينهم وتقواهم: فطوبى للغرباء، لأن دين الله عندهم أغلى من الدنيا وما فيها، طوبى للغرباء، لأنهم يدعون الناس إلى عبادة الله وحده دون سواه، طوبى للغرباء، لأنهم الصالحون المصلحون، وهم العاملون المعلمون، طوبى للغرباء، لأنهم التوابون المتطهرون، والله يحب التوابين، ويحب المتطهرين، طوبى للغرباء، لأنهم الصوامون القوامون لله حنفاء، طوبى للغرباء، لأن حياتهم ومماتهم لله رب العالمين، كما علم الله كل واحد فقال في القرآن الكريم: "قل إني صلاتي ونسكي ومحياى ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (163) (الانعام 162 – 163). طوبى للغرباء، لأنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، طوبى للغرباء، لأنهم يشعرون بآلام الناس وآمالهم، ويكونون في خدمتهم، طوبى للغرباء، لأنهم يصلحون إذا فسد الناس، طوبى للغرباء، لأنهم ينقادون للحق، ولا تستضعفهم أهواء الخلق، طوبى للغرباء، لأنهم مرابطون على الثغور، وهم لها بالله حافظون".

وقال المفتي قباني "أيها الإخوة المؤمنون، أيها اللبنانيون: الغربة لم تعد غربة الدين فقط، والغربة لم تعد تقتصر على مغادرة الوطن والبعد عن الأهل والولد، الغربة يا سادة، ليست دائما هي غربة المكان والزمان، فقد نكون بين أهلنا وأولادنا وأحبابنا وتحتوينا أوطاننا، لكننا نبقى غرباء، وغربة اللبناني اليوم، لم تعد تقتصر على كونه يسعى على رزق في بلدان الاغتراب خارج الوطن، أو طلبا للأمن والأمان، فكم من لبناني يعيش اليوم في وطنه وفي منزله وهو أشد غربة من الغريب؟ لبنان اليوم في غربة، واللبنانيون أيضا في غربة، لبنان وطن جعلناه بأيدينا في مهب الريح، تتقاذفه انقسامات الداخل، على وقع أحداث أمنية متنقلة منذ سنوات طوال، كما تتقاذفه انقسامات الخارج على وقع أوضاع إقليمية تتراوح بين التأزم والتفجير والتغيير، ولبنان متوكئ على صاعق يصعب تفكيك عناصره المتداخلة إلى حد الاستحالة على التفكيك، حتى وصل لبنان الدولة في هذه الأوضاع والمتغيرات، بدلا من التماسك، وصل إلى حافة الخطر الأكبر، وهو ينزلق رويدا رويدا نحو الهاوية، أما وجوده السياسي ففي غرفة العناية الفائقة يحتضر، ونخشى أن تنزع آلات الإنعاش عنه فيفارق الحياة".

وأكد "الشعب اللبناني يئن كل يوم من الحاجة والفقر والبطالة والكساد، بل وحتى الإفلاس، وقد آن الأوان كي يخرج الشعب الصابر مطالبا بالتغيير، وعلى عقلاء اللبنانيين وليس سياسيوهم فقط، أن يفكروا مليا ماذا يصنعون قبل فوات الأوان، مع تجديد الالتزام بالطائف لا الخروج عليه فهو الأساس، والمشكلة في لبنان لا تكمن في المعارضة ولا في الموالاة، ولا بمزايدة الأفرقاء أنفسهم على بعضهم في حب الوطن، ولا المشكلة تكمن في النصوص، إنما المشكلة الحقيقية في لبنان تكمن في السلوك السياسي، لاسيما حين يصبح العقد الاجتماعي في الوطن موضع خلاف، فطبيعة النظام اللبناني الذي لا خلاف عليه، يجب أن تعكس قواعد العيش المشترك بين مختلف أبناء الوطن، وتقوقنها في دساتير وقوانين أساسية، ترعى ديمومة وسلامة الواقعين السياسي والاجتماعي، خاصة في مثل الظروف التي تواجه الدولة في لبنان اليوم، وهي لا تستطيع في حدها الأدنى اليوم أن تقوم, ولذلك فالمطلوب اليوم هو إجماع لبناني، على

عدم النزاع في مؤسسات الدولة تحت أي عنوان كان، الأمر الذي يخل بسلامة الواقع السياسي والاجتماعي للشعب في البلاد، ولذلك فإن المطلوب من المواطن اللبناني، أن يرفض التفريط في حق من حقوقه الأساسية المضيعة اليوم، والضرورية للعيش بكرامة وكفاية وأمان، بسبب نزاعات تنشأ هنا وهناك، أو تحت ذريعة الخلافات السياسية التي يسقط ضحيتها الوطن".

ورأى "ان المطلوب اليوم هو إجماع لبناني على المحافظة على الوطن، وعلى ومصالحه الأساسية العليا، وعلى الدولة ومصالح الشعب، وأن يعنى كل مواطن بالمحافظة على سلامة وحرية وخصوصية الآخر من أبناء وطنه، المطلوب اليوم هو إجماع لبناني على ثابت وحيد في وجدان وضمير كل لبناني، وهذا الثابت هو لبنان الوطن ولبنان الدولة، ولبنان الشعب، وعدم تضييع هذا الوطن وهذه الدولة وهذا الشعب، والمطلوب أيضا منع الصراع على الوطن، وإلا هلك الوطن وهلكت الدولة وهلك الشعب، ومتى تكرس هذا الثابت في النفوس، انبثقت عنه صيغ الحكم وصيغ التعاطي التي تحفظ المشاركة للجميع، بالتكافؤ وبالتساوي وبشكل يتكامل معه الوطن، لتقوم دولة ترعى جميع أبنائها، تحفظ عليهم أرضهم وأرزاقهم ومستقبل أبنائهم، لا دولة نتصارع عليها ليحذف كل واحد الآخر منها، أو يفرض نفسه عليها وعليه".

وتوجه الى اللبنانيين فقال: "أنتم أيها اللبنانيون جميعا، تتشاركون تاريخا مجيدا مشرفا، هو تاريخ هذا الوطن، منذ الإستقلال وحتى بناء الدولة، وأنتم اليوم مدعوون أيضا للمشاركة في مستقبل واحد زاهر ومشرف للجميع، فلبنان ليس دارا بناها الآباء ليتقاسمها الأبناء، بل هو دار بناها الآباء بدمائهم ونضالهم ليتشارك في عمرانها الأبناء والأحفاد من بعدهم، دار تعمر بمشاركة أبنائها، وتتهاوى على رؤوسهم إذا ما حاولوا تقاسمها، والامتحان العسير قادم، والأخطر إن كنتم لا تصدقون أسرع، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، ولله ما في السموات وما في الأرض، وإلى الله ترجع الأمور، حفظ الله عليكم أيها الإخوة أنفسكم ووطنكم لبنان من فتن الدنيا، وثبتكم على صراط الله المستقيم، وعلى المحبة والرضا في ما بينكم، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب، وإليه المصير، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون".
 

السابق
سجين إلى مستشفى النبطية نتيجة تناوله مادة “الاودكس”
التالي
قبلان: لبنان يعيش حالة تردد وقلق