الطائف غير قابل للتعديل لكنّه يطبَّق بصيغ مختلفة

بعد توقّف الحرب الأهلية مباشرةً، بدا أن تطبيق اتفاق الطائف، كما ورد في نصوصه، يحتاج إلى وقائع مختلفة على الأرض. استفاد المسلمون عملياً من خسارة المسيحيين الحرب الأهلية، وتراجع نفوذهم في كافة المجالات، ثم جاء رفيق الحريري ليقود أول وصاية غير مسيحية على القطاعات الاقتصادية المنتجة، وتحول خلال وقت قصير إلى شريك مضارب، أغرى البعض وأغاظ البعض الآخر، لكن المعادلة السياسية كانت تقوم على وقائع وحسابات موجودة على الأرض. كان الاشتباك الإسلامي ـــــ الإسلامي حول كيفية التعامل مع التركة المسيحية.

خلال تلك الحقبة التي تولّت فيها سوريا دوراً تنفيذياً رئيسياً، وبمشاركة سعودية ـــــ أميركية، من خلال الحريري الأب، كان الجميع يشكو من آلية معينة لتطبيق اتفاق الطائف. كانت موازين القوى على الأرض هي المحرك الفعلي لهذه الإدارة، وكان الطرف السوري يدوّر الزوايا بما يعوّض على من يرى نفسه مغبوناً في بعض الحصص. لذلك كان رئيس الجمهورية لا يحتاج إلى تعديل دستوري ولا إلى صلاحيات واضحة كي يحقق نفوذاً واضحاً داخل السلطة التنفيذية أو مباشرةً داخل مؤسسات الدولة.
بعد اغتيال الرئيس الحريري، دخل لبنان مرحلة جديدة من التوازنات؛ خروج الجيش السوري، وتعاظم الانقسام الداخلي، وتزايد قوة وحضور التيار الذي يمثله الحريري، جعلت جميعها تطبيق اتفاق الطائف يأخذ منحى مختلفاً. ارتفع صوت الشريك المسلم بدايةً، لأنه شعر بأن ما وفّرته سوريا من دعم للطرف الشيعي تراجع وترك ذلك انعكاساته السلبية على الحضور الشيعي داخل دائرة القرار الرسمي. وكان على المسيحيين صياغة موقعهم الجديد بعد الإفراج عنهم سياسياً، وهو الأمر الذي انعكس خلال وقت قصير، بأن كان على الفريق المسيحي المتحالف مع الأميركيين قبول معادلة أن يتولى تيار المستقبل إدارة البلاد، وأن تترك لهم حصة في الإدارة والمؤسسات، وأن يجري تركهم يعيدون الاعتبار إلى خطابهم السياسي. في المقابل، قاد الفريق المسيحي الآخر هجوماً بغية استعادة الحضور الطبيعي داخل الدولة ومؤسساتها، فما كان من الولايات المتحدة والسعودية وتيار الحريري إلا إبعاده وإهماله وتهميشه، ودفعه عملياً نحو البحث عن شريك قوي داخل الدولة. لم يمض وقت طويل حتى قام التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله.

ومنذ ذلك التاريخ، عاد النقاش إلى ملف اتفاق الطائف. كل حديث عن تعديل دستوري يعني بالنسبة إلى السنّة تعريضاً لامتيازات ومكاسب وفّرها لهم اتفاق الطائف. ويرى بعض الشيعة أنه يجب إعادة بعض الصلاحيات إلى المسيحيين، لكن ضمن آلية تبقيها تحت رقابة الطرف الآخر ومشاركته. أما المسيحيون عموماً، فيرون أن المطلوب إعادة الاعتبار إلى موقع رئاسة الجمهورية، من خلال مدّه بصلاحيات تجعله قادراً على أداء دور الشريك الفعلي لا الشكلي مع الرئيسين الشيعي والسنّي، وخصوصاً أن الكل فقد الأمل في تصحيح الخلل في إدارة مؤسسة مجلس الوزراء.

وفي الحالات كافة، نعود إلى النقطة ذاتها: الطائف هو اتفاق يخضع تطبيقه لحسابات وموازين قوى، وبالتالي فإن تغيير هذه الوقائع هو المدخل، إلا إذا ارتضى اللبنانيون ـــــ وهذا أمر مستبعد الآن ـــــ حلاً من خلال إعادة النظر في واقع الدستور اللبناني.
وفق هذا المنطق، يجب ألا يصاب أحد بالدهشة عندما تتولى بكركي النطق باسم المشترك بين المسييحيين حيال حاجة رئاسة الجمهورية إلى عناصر قوة إضافية، من دون الدخول في أي تقويم لهذا الرئيس أو ذاك. كذلك فإنه يجب ألا يصاب أحد بالمفاجأة عندما يرى الرئيس نجيب ميقاتي، كما معارضون للحريري من الطائفة السنّية، يرفضون أي محاولة للانتقاص من دور السنّة في موقع القرار. كذلك هي الحال مع الشيعة، الذين يخشون تغييراً يطيح النفوذ المباشر أو غير المرئي لمؤسسة مجلس النواب، لناحية الشراكة الكاملة في إدارة السلطتين التنفيذية والتشريعية، إضافةً إلى الشراكة الكاملة في إدارات الدولة.

هل من حل؟
كان البعض يعتقد أن تحالف الأقوياء داخل الطوائف كافة يمكنه خلق توازن رعب مع تفاهم ودّي يتيح تعديل الوقائع والسير نحو مستوى أفضل على صعيد إدارة البلاد، لكن هذا التحالف لا مكان له عند النظر إلى الظروف الخارجية التي تتحكم في كثير من عناصر السياسة اللبنانية. أما محاولة تركيب تحالفات بين اثنين ضد ثالث أو العكس، فإنها لا تنتج بالضرورة واقعاً مختلفاً، بدليل أن نبيه بري أقرّ البارحة بأنه يمكن من يمثّل الغالبية السنيّة تعطيل عمل مؤسسة مجلس النواب إذا لم يكن راضياً عن جدول الأعمال، تماماً كما أدرك الرئيس ميقاتي أنه يستحيل على أحد التواطؤ لإضعاف التمثيل المسيحي داخل الحكومة.

يعني عدنا مرةً جديدة إلى توازن القوى، وهو التوازن الذي بات يعطّل حتى حكم الجماعات الطائفية نفسها، إضافةً إلى تضرّر بقية الجماعات اللبنانية منه. وصار عقبة فعلية أمام تطور الدولة واقتصادها، ما يعني أن الطائف ليس قابلاً للتعديل، بل قابل للتنفيذ بأكثر من طريقة، لكن الاختراق الوحيد الممكن الآن، هو من خلال انتخابات تعتمد النظام النسبي، عسى أن يكون ذلك مدخلاً إلى معركة أكثر واقعية، وهي لتغيير كل النظام.

السابق
ميقاتي.. الامتحان الأخير
التالي
النهار: السفيرة عساكر تطالب من جنيف بشمول التحقيق اختفاء الصدر