لماذا لم تنفجر في دمشق؟

ثمة فارق بالغ الأهمية والدلالة في جغرافيا الاضطرابات بين سوريا والدول العربية الأخرى التي عرفت «ثورات» شعبية. في تونس بدأت شرارة الاضطرابات في العاصمة. وبدا واضحاً أنها تتجه إلى التمركز فيها، قبل الانتقال إلى مناطق أخرى، وإن لم تُعط الوقت الكافي لبلورة ذلك وتأكيده، نتيجة تكتل أكثرية مواقع النفوذ في النظام ضد بن علي. فبمجرد التقاء الجيش و«إخوان» النهضة عليه، رحل سريعاً.

في مصر كان الأمر نفسه. «الثورة» ولدت في العاصمة. حتى إنها جعلت من قلبها، «ميدان التحرير»، مركز عملياتها ومقر قيادتها ومنطلق حركتها. حتى إنه قيل لاحقاً، بعد سقوط حسني مبارك، إن المناطق الأخرى في الأطراف البعيدة عن القاهرة كانت في منأى عن «الثورة»، أو حتى متباينة مع خطابها وتطلعاتها، بدليل ما حصل في الاستفتاء على الدستور الجديد.

لكن في الحالتين، كان من الثابت أن «الثورة» على النظام هي بنت مركزه. وهو ما يدل على «شعبية» الحركة المعارضة وعلى انبثاقها من ناس البلد، ومن قلبه.

منذ اللحظة الأولى لبدء الاضطرابات في سوريا، كان ثمة مشهد آخر، إذ لم تتمركز حركتها في دمشق، علماً بأنه بمقاييس ما سبق من تصوير وتوصيف، الشام هي قلب النظام هنا، وهي مركز ثقله بكل الأبعاد. حتى إنها تحتوي مع محافظتها، أي ريف دمشق، على ما يوازي 40 في المئة من سكان سوريا، أي نحو 10 ملايين نسمة. وحتى بالمفهوم المذهبي والجماعاتي، الذي حاول المعارضون اللعب على وتره أو الرهان على منطقه، هي دمشق المركز والثقل والقلب. ومع ذلك، لا تزال عاصمة النظام السوري بعد أشهر من الاضطرابات هادئة نسبياً، وبعيدة عن إمكان تحولها مركزاً لحركة «الثورة». والأمر نفسه يصحّ على حلب، العاصمة الثانية للبلاد.

مهما كانت التفسيرات والتأويلات لهذا الواقع، يمكن حياله أن يطرح المراقب فرضية أولى من نوع: ماذا لو كان هذا الأمر دليلاً أو مؤشراً أول إلى ما هو غير طبيعي ولاعفوي، وبالتالي «غير شعبي» في حقيقة تلك الحركات التي تنقّلت في أكثر من منطقة سورية؟

هذه الفرضية تقود فوراً إلى نقطة البحث الآتية: لكن أين ظهرت حركات الاحتجاج في سوريا؟ ووفق أي خريطة جغرافية أو جيو ـــــ ستراتيجية؟ يظهر سريعاً أن نقاطاً خمساً مثّلت منذ أشهر، وبالتتالي أو التعاقب، مراكز ثقل الاضطرابات السورية. نقطة أولى هي منطقة درعا. الثانية في بانياس ومحيطها. الثالثة في بعض القامشلي ودير الزور. الرابعة في منطقة تلكلخ. والخامسة والأخيرة، أو المنطقة الساخنة راهناً، في محور إدلب وادي الشغور.

ولا بد للمراقب من أن يطرح السؤال عن المشترك في هذه النقاط الخمس. وهو ما يقود الى ملاحظة الآتي: أولاً منطقة درعا، سمتها الأساسية أنها منطقة حدودية، متصلة عبر معبر الرمتا بدولة الأردن. المنطقة الثانية بانياس، حدودية أيضاً، وإن بمعنى ساحليتها واتصالها بالخارج عبر البحر. أما القامشلي فحدودية كذلك، متصلة بالعراق، وتحديداً بمنطقة متوترة و«ثائرة» على حكم بغداد، فيما تلكلخ تلتقي مع ما سبقها في حدوديتها المتصلة بلبنان، عبر منطقة وادي خالد، ذات الثقل السياسي والأمني والاستخباري، المعارض لسلطة دمشق، لتظل منطقة وادي الشغور مندرجة في السياق نفسه، أي كونها منطقة حدودية كذلك، متصلة بتركيا، تركيا نفسها، مقر استضافة مؤتمرات «الإخوان» المنتفضين على السلطات السورية القائمة.

في خلاصة سريعة، كأن مناطق الاضطرابات الخمس ليست غير محاولات خارجية لبناء «رؤوس جسور» في الداخل السوري، لمجموعات يجري ضخّها من خارجه، أو على الأقل تزويدها وتذخيرها بما يلزم لحركتها. أو كأن المناطق تلك هي تجسيد واقعي لمفهوم «المنطقة الخضراء» التي تتحدث عنها المصنفات الأكاديمية العسكرية، ضمن باب «الحرب التخريبية»، أي قيام منطقة آمنة، متصلة ببعد خارجي معاد، تُتّخذ مقراً لحركة «التخريب» في اتجاه «المناطق البرتقالية» المستهدفة في مرحلة أولى، وبعيداً عن «المناطق الحمراء» الخاضعة لسلطة الدولة المطلوب «تخريبها»، والتي تضم غالباً عاصمة تلك الدولة.

هكذا تبدو صورة ما يحصل في سوريا اليوم، أقلّه بمفهوم العلوم العسكرية. أما فلسفة ثورتها، فحسبها أبو جمال وحسَبه والنسَب.

السابق
السفير: حالـة طـوارئ طبيـة فـي غـزة: حماس تتـهم السـلطة بالابتزاز
التالي
رأيان في غِياب سعد الحريري!