بري في مواجهة الديموقراطية القبلية

«الجاهل تلتبس عليه ذاته الخاصة مع اللون الذي يصبغها،
أما الحكيم فالمعرفة تحرره من كل التباس.
فهو يعرف انه بلّور صرف».
كمال جنبلاط
(في «سعادة الروح»)

لم يكن الرئيس نبيه بري بحاجة إلى الجلسة النيابية التي كان دعا إلى عقدها أمس وسط خلافات واجتهادات وتشنجات وتجاذبات سياسية وطائفية ومذهبية، وصلت إلى حد محاولة تصفية حسابات قديمة معه، ليُظهر حكمته وبراعته في الأداء، وتمسكه بالمواثيق والنصوص القانونية والدستورية، وتغليب الوفاق بين اللبنانيين على أي اعتبارات أخرى، وخصوصاً عندما أعلن انه كان سيرجئ الجلسة، حتى إن توافر النصاب القانوني لها، في غياب فريق سياسي وطائفي ومذهبي يعتبر حضور الجلسة ومشاركته فيها شرطاً أساسياً لانعقادها.
ذلك ان مجلس النواب، بخلاف مجلس الوزراء، لا يمكن ان يُختزل بنصاب يتألف من مجموعات سياسية وطائفية من لون واحد، نظراً إلى ان المجلس هو المكان الذي تلتقي فيه العائلات السياسية والروحية المتشاركة في عيش مشترك هدفه الأسمى توحيد اللبنانيين وتآخيهم وتوافقهم.

ولقد كانت الجلسة مناسبة للتأمل في ما يمكن تسميته «الديموقراطية القبلية»، أي النظام القائم على قطع الحوار عند الاختلاف، والعمل على الأخذ بالثأر، كما في النزاعات البدائية للجماعات الخارجة على القانون.

وجرى أخيراً استنهاض التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، عن طريق تسريب معلومات حول قرب إعلان القرار الاتهامي الذي نام أشهراً ليصدر، بحسب المعلومات المسربة من الأمم المتحدة، الشهر المقبل، مع ما يمكن ان يحدثه من ردود فعل وتداعيات متنوعة قد تجعل الحكومة المرتقبة في خبر كان، إلا إذا جرى التأليف قبل صدور القرار ونالت الحكومة الثقة على أساس بيان وزاري يتصدى لتسييس المحكمة ويطالب بإعادة النظر في الاتفاقات المعقودة معها.

تضاف إلى ذلك التعبئة الحريرية نيابياً وسياسياً وأمنياً في موضوع الخلاف بين وزير الاتصالات شربل نحاس والمدير العام لـ«أوجيرو» المهندس عبد المنعم يوسف، واستعمال مختلف أنواع الأسلحة في المواجهة مع نحاس، بما فيها العصبيات المناطقية والطائفية والمذهبية. وصولاً إلى الصدام مع رئيس الجمهورية.
لكأن الرئيس الحريري قد قطع الجسور مع الجميع، ولم تعد تهمه الدولة، ولا المؤسسات، وان همه الوحيد هو حماية المواقع التي تعتبر حيوية بالنسبة إليه، مع شاغليها، وخصوصاً في الداخلية والعدلية، وإن خربت البلاد.

وثمة من وجد في ذلك «أمر عمليات» موجهاً إلى جميع الحريريين في السلطة، وزراء ونواباً ومديرين عامين، للتمرد على القرارات التي لا تحمل خاتماً أزرق من أجل إرباك الحكومة العتيدة التي يجري تعطيل تشكيلها، بعد تحييد رئيس الجمهورية إلى درجة تعطيل دوره… انتظاراً لعودة الحريري إلى الحكم، ربما بقرار اتهامي يطول «حزب الله» وسوريا معاً، وخصوصاً سوريا التي أدار لها الحريري ظهره.

ومن زمن بعيد كان وزير العدل الفرنسي ألكسي دوتوكفيل قد حدد القيم الديموقراطية لدى جولته في الولايات المتحدة عام 1831 مستكشفاً سر الديموقراطية الأميركية، إذ رأى «ان الطبقات راحت تختلط، والحواجز ترفع بين الناس وتتدنى، والأملاك تتقسم، والسلطة تتوزع، وأضواء المعرفة تنتشر، والعقول تتساوى… وهكذا يصير الوضع الاجتماعي ديموقراطياً، ويستوي سلطان الديموقراطية آمناً في المؤسسات كما في التقاليد حيث يكون الشعب قد وضع بنفسه شرعة للحكم، وتوافرت لكل فرد حقوقه فانقاد الناس إلى القوانين من دون عناء، واحترموا سلطة الحكومة على انها ضرورية وليست إلهية».

ولو كان الرئيس سعد الحريري في بيروت وأصغى إلى ما قاله صديقه السفير السعودي علي العسيري في مركز عصام فارس وصفّى قلبه، واحتكم إلى عقله في استلهام المصلحة الوطنية، لا الفئوية ولا الشخصية، في تصرفاته، لكان حضر أمس إلى مكتب الرئيس نبيه بري، والتقى في لقاء مصالحة مع بري والنواب محمد رعد وميشال عون ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية والأمير طلال أرسلان وآخرين يختلف معهم.

ولأن الحريري مُقاطع للبنان، فإن اللبنانيين يتكلون على السفير عسيري لاسترجاعه وإقناعه بأن الحل لمشاكل لبنان يكون لبنانياً أو لا يكون.

لقد أضاع الحريري الكثير من الفرص للوفاء بذكرى والده، وأهمها تحقيق الوحدة بين اللبنانيين. وكانت حادثة الاغتيال ـ على فداحتها ـ أثمن هذه الفرص وأهمها. إلا ان الأمل لم ينقطع، وأمام الحريري الابن فرصة قريبة، قبل القرار الاتهامي، للدعوة إلى المصالحة والوحدة وتجاوز الانقسام الذي بلغ حداً خطراً على مختلف الأصعدة.
فهل يفعل؟

السابق
قوى الأمن الداخلي تطوّع 400 امرأة بينهن ضباط
التالي
الانباء: مجموعات أصولية على الساحل الجنوبي!!