حكي سرفيسات

في كل مرة كانت الصدف تأخذني من تلك الطريق. كان الغضب يستبد بي. يطلع فجأة كمدّ صامت من الحرّ إلى الرأس. تماماً كما يحصل حين يوجه إليك أحدهم إهانة. مهما كانت حالي، مستغرقة في التفكير، أو ضاحكة لاهية في يوم عطلة، أشرح آثار القدم الهمجية لفيل سوليدير على قلب وسط بيروت لأصدقاء أجانب. لا يهم. الثابت أنه ما إن ألتفت ناحيته، وأرى التمثال القابع تحت تلك الشجرة الوارفة التي كان سمير يحبها، مردفة لمحدثي: حديقة سمير قصير، حتى يستبد بي الغضب. والتمثال، الذي يزعم من وضعوه هناك أنه يمثّل سمير، وكأن النحت هو فن شفهي كالإنشاء، هو إهانة بكل معنى الكلمة لذكرى الرجل. فنية أولاً، لكونه يهين فن التشريح، القائم على إتقان نسب الجسد. وهو قبل كل شيء إهانة لوسامة سمير قصير التي كان لا يقاوم الاعتداد بها، ولو بخجل، فيدعي الترفع عما يشغل الوسيمين والجميلات من كونهم محط الأنظار، فيما تتقد العينان الجميلتان بالاكتفاء والرضى. كان جمع تعابير وجهه لدى مديح أحدهم لوسامته يفضي في المحصلة إلى ابتسامة سرور إنكارية. أما حين كان يؤدي «فرضه» في القراءة والتحليل والاستنتاج بشجاعة، فقد كانت ابتسامة الرضى تتسع. كان يجرؤ على تبني ذلك الإعجاب بالذات بما يختص بالأفكار، فيما كان يداوره بغمغمة حين يكون متمحوراً حول جماله رجلاً.

في التمثال، يبدو سمير قصير ذكرى غائمة عن شخص بالكاد نعرفه. وهو على الأرجح كذلك بالنسبة إلى النحات الذي «صبّ» له هذا التمثال البرونزي السخيف. يبدو تمثال «تسويات». قام به هاوٍ لحساب جاهل بالفن وقبل به أقارب لنقل إنهم خجلوا من الاحتجاج ظناً منهم أن مجرد فكرة التكريم بتمثال وحدها كافية لتخليد ذكراه. مع أن «تخليد» هذا التمثال لذكرى سمير على «هذه الصورة»، هو بحق تعذيب ما بعد الموت لشخص مثله، له عين مثقفة فنياً، ومعروف كذواقة في هذا المجال، هو الذي كان يهوى الجمال بكل أشكاله، النادر منه، المختلف.

لقد أثبتت تجارب عدة لنصب مختلفة لشخصيات، أن الجهة التي تُكلَّف عادة بمثل هذه النصب، غير جديرة بالثقة. تذكرون تمثال رشيد كرامي؟ هو ذاته الذي في فردان. لقد أعيد إلى «المصدر» مرتين لأنه كان يشبه كل شيء إلا الراحل. أما تمثال بشارة الخوري، فقد كان بحاجة إلى إشراف مباشر من العائلة لكي يخرج شبيه له، وإن كان يفتقر إلى التناسب مع محيطه لجهة حجمه. أما تمثال الجندي «العادل» أمام المحكمة العسكرية، فإلى خرقه أبسط البديهيات من نوع الجمع بين العدالة والعسكر، إلا أن البديهيات الفنية التي يخرقها من نوع تناسب الحجم مع المسافة التي تفصل بينه وبين الرائي، هي أخطر بكثير. ودعك من الانطباع الذي يعطيه ببنطلونه المثقل بشيء عصي على التقدير.

عندما اغتيل سمير قصير، نصبت له «النهار» بورتريه ضخماً على واجهة مبناها، بقي معلقاً هناك لأسبوع على ما أذكر أو أكثر بقليل ثم أزيل. وعندما اغتيل جبران، ارتفعت صورته، لا بل حفرت على مبنى الجريدة إلى جانب «قسمه»، الذي ينتمي إلى الإنشاء اللبناني التقليدي. لا أعرف ما هو تقويم النهار لدور كلّ من سمير قصير وجبران تويني في خدمة النهار الحقيقية، التي يجب أن تكون ولادة أفكار. لكن يبدو هذا التقويم من التعاطي المختلف مع ذكرى الراحلين، وبجانب كبير منه قائماً على الوراثة العائلية.

سمير لم ينجح في أن يكون جزءاً من عائلة النهار. حوربت تجاربه الناجحة جداً، وحوربت مقالاته وافتتاحياته. كان «الشهيد» الرسمي للمؤسسة على اختلاف معه. لكنه كان لا يجد مكاناً يشبهه أكثر من تلك الجريدة، أو على الأصح ما كانته ذات يوم. أصبح سمير قصير بعد موته مجرد أيقونة، يشهرها ما بقي مما كان يسمى 14 آذار، ساسة لا يفقهون شيئاً من دينامية أفكاره، والأرجح لم يقرأوا له شيئاً. يفتتح باسمه نائب شمالي تافه حلقة توك شو، مذكراً أن اليوم يوم استشهاده، فيما لا نتذكر أصلاً أن هذا الضيف هو نائب أصلاً، ليعود ويبدأ بعد البسملة باسم سمير، إلى الدخول بزواريب البازار السياسي اللبناني. يشبه سمير قصير الثورات العربية التي راهن على حصولها وأراد على نحو ملحاح أن يشارك في «صناعتها»، يشبه بعضها بمصيره بعد موته. بكيفية تقزيمه وتتفيهه ليتناسب مع حاجات الطبقة التي ركبت على تظاهرة 14 آذار ودجنتها. لا، لم يكن كل من تظاهروا في 14 آذار من هذه النوعية التافهة، طائفيين يريدون أن «يعيشوا»، تحديداً في السوليدير، ولو على حساب بقية إخوتهم في الوطن. كان هناك الكثير الكثير من الصادقين الذين سرعان ما انفضوا عن الثورة التي ركبها الساسة وقادتهم في الخارج. هناك من أخذ وقته قبل أن يخرج، لم يصدق، وهناك من تنبه سريعاً وخرج، وهناك من قتل وهو يباشر للتو نقده لثورة فهم أن هناك من ركبها وأمسك بقرنيها يوجهها إلى حيث تدجن الثورات.

اليوم، وأنا أمر بقرب تمثال سمير قصير المشوَّه. لا أكاد أمسك نفسي عن الرغبة بتحطيمه. هذا التمثال لا يشبه سمير قصير، هذا التمثال يشبههم. ويشبهنا إن لم نتكلم.

السابق
كفرصير تتفوّق على مشكلة النفايات
التالي
لبنان على البسكليت