بكركي: بين البابا والأمبراطـور

إنّ أبرز ما في "السينودس" الماروني السياسي، الذي رعاه البطريرك بشاره الراعي، بعد القمة الروحية في بكركي، أنه يطرح السؤال الكبير:

أين هم الموارنة الذين كانت باريس "مَربض" خيلهم…؟

أين هم أولئك الموارنة، أحزابا وقيادات وطاقات وقامات…؟

أين هو حضورهم التاريخي في لبنان، ومنه إلى المنطقة والعالم…؟

أين هو الثقل السياسي الذي يتميّز بفرادة الفعل ورجاحة العقل…؟

أين هو البروز الفكري والعلمي والأدبي والصحافي والشعري، الذي كانت العروبة تخشع تحت ظلّه المشعّ…؟

أسئلة يطرحها الخاصة من الموارنة في مجالسهم الضيّقة، وهم يتحفظون بشيء من الحذر والخفَر، عن طرحها على "سينودس" بكركي، مخافة أن يتسرّب الهمس إلى آذان الجدران.

والسؤال الآخر، كيف يمكن استخلاص الصراع الماروني – الماروني، من نزاع محموم إلى تنافس ديمقراطي…؟ لأنّ الصراع، مع جموح الغريزة وهَلَع العَقل، هو نزاع سلبي يُسوِّى بالدم، والتنافس حسب التعريف العلمي للسياسة، يحلّ محل القوة المادية، كوسيلة حضارية للتعبير، فيما الذين يستعملون العنف وسيلة إلى السلطة، يتحوّلون في ممارساتهم إلى دمويين، كما يقول موريس دو فرجيه.

الموارنة، هم أول من استُدرج إلى الحرب، فإذا المارونية السياسية التي كانت سائدة قبل أواسط سبعينيات القرن العشرين، يتقلّص دورها، لتحلّ محلها المارونية العسكرية، وإنّ اكبر خطر على الحرب هي الحرب حين يتسلّمها عسكريون كما يقول تشرشل.

وفي إطار التداخل بين الدفاع عن الكيان الوطني بقوة السلاح، والدفاع عن الكيان الخاص، ووحدانية القيادة بالسلاح ذاته، كان خطر البندقية على الموارنة أدهى من خطرها على أخصامهم، وعاشت الطائفة المارونية بعد غياب القادة التاريخيين، حالة من الرعب والاضطراب والتسيّب والتمزّق والانهيار ومصادرة العقل، فانطلق عنان المطامع دونما زواجر، وكان ما كان ممّا لست أذكره على أيدي قيادات "قيد الدرس"، وحتى بكركي لم تسلم من الاستهداف والاستنزاف.

أسارع إلى الاستنتاج العفوي، فأقول: إذا لم تتمكن بكركي الراعي، بعد انهيار المارونيتين السياسية والعسكرية، من خلق مارونية ثالثة: معتبرة من الأخطاء الفواحش، مؤهَّلة، موزونة، متوازنة، واعية المدارك والذهن، منخرطة في محيطها الوطني، متفاعلة مع محيطها العربي، ومنفتحة على المحيط الإنساني الأوسع، فقد تقع المارونية في اللاّمارونية.

ثمّة مرجعيتان كانتا مؤهلتين لاحتواء الحسّ الماروني النافر والهائم؛ بعد سلسلة من النكبات المتلاحقة، هما:

– مرجعية بكركي.

– مرجعية رئاسة الجمهورية.

المرجعية الأولى، انكفأت على ذاتها بفعل انخفاض تأثيرها حيال المارونية العسكرية المتقاتلة، فانقبضَت تحت وطأة الصدمة والموجة العارمة، إلى جانب الهاجس الرمزي الذي يجعل بكركي حذرة إلى حدّ من الغوص بعيدا في دَمج الزمنيات بالروحيات.

أما المرجعية الثانية، فقد انشغلت بالشأن العام معتبرة الظاهرة المارونية المرتعشة شأنا حصريا خاصا، فإذا هي تقع ضحية العام والخاص معا.

• وزير سابق

وإذا كان كرسي مرجعية بكركي قد أُعطي "مجد لبنان"، فإن المجد العملي يتجسّد "بغبطة" مَنْ يجلس سعيدا على كرسيها. ولا يتحقق مجد إلاّ بقائد روحي "إذا رفع أصابعه أمام المؤمنين يرونها شموعا عشرا". يفرض هيبة الثوب الأرجواني على بَطَر الأباطرة الموارنة. في معزل عن الصراع التاريخي المشهور بين البابا والأمبراطور، حول سلطة الأمبراطور المستمدة من الله وسلطة الباباوات على الملوك.

البطريرك الراعي يمتلك مواصفات القائد الروحي، ولأنه الراعي، فهو قادرٌ على أن يذكِّر بالمثَل العربي القائل: "إذا تفرَّقت الغنَم قادتها العنزة الجرباء…". وأراه أيضا يلتمس مأثرة لبنان الكبير عند البطريرك الياس الحويك، وميثاق الاستقلال عند البطريرك أنطوان عريضه، والوحدة الوطنية عند البطريرك "محمد" بولس المعوشي، والقرار الحر عند البطريرك نصر الله صفير، توصّلا إلى مارونية ثالثة في مستوى الطموح التاريخي، كفيلة هي وحدها "التزام مبدأ الشراكة وتفعيله مع العائلات الأخرى، والمحافظة على الأرض والوجود والهوية، وإعادة التوازن على الإدارات…" على أن يعتبر اللاّتاريخيّون من التاريخ، ويدركوا، للمرة الأخيرة، أن اكتساب القيادة المارونية يتمّ بالاستحقاق لا بالقوة، وأن اغتصابها بالعنف يؤدي حتما إلى الصراع القاتل مع الذات، وإلى إلغاء حجم القيادات وإلغاء الحضور الماروني معا.

السابق
استنفار أمني لبناني لمواكبة التحركات الفلسطينية على الحدود في ذكرى «النكسة»
التالي
قطوعٌ جديد الأحد المقبل فماذا عن المعالجات؟