سببان للكلام عن الطائف

لم تأت مطالبة البطريرك الراعي بتعديل دستور الطائف من العدم، ولا من خارج القاموس السياسي العام لبكركي. فالصرح البطريركي منذ إقرار تلك الوثيقة، ظل يتحدث عنها على أنها اتفاق الضرورة. حتى الكاردينال صفير الذي عُدَّ من عرابي الطائف، لم يتردد مراراً في المطالبة بتعديله. وهو ما جعل سلطة الوصاية يومها تعتقد أن هذا المطلب من صلب الأجندة التفاوضية لبكركي، فراحت تدرج تعديل الدستور بنداً ثابتاً على جدول كل بازار رئاسي، خصوصاً في لحظتي التمديد الرئاسيين عامي 1998 و2004. وكم تساءل إكليروس ملتزمون: كيف أمكن نواب الطائف أن يهتدوا الى الخير، وهم لم يصلبوا أيديهم على وجوههم طيلة أسابيع؟ في إشارة طبعاً الى منع نواب الطائف من المشاركة في أي قداس إلهي طيلة وجودهم في السعودية.

ولم يقتصر رفض الطائف على الكنيسة، فميشال عون رفع «فاصلته» الشهيرة منذ اللحظة الأولى، وكذلك فعل أمين الجميّل الذي بنى خطابه السياسي، طيلة فترة نفيه «القسري»، على معارضة دستور الطائف. وأبعد منه ذهب ريمون إده وطبعاً دوري شمعون. حتى سمير جعجع لم يخرج الى العلن القواتي في 26 كانون الأول سنة 1989، إلا سائلاً مستنكراً: «وهل تُسأل القوات اللبنانية عن الطائف؟».

كل ذلك كان الدليل الدامغ على عدم استساغة جمهور مسيحي ساحق لذلك الاتفاق. وكم كانت المفاجأة كبيرة وسعيدة، حين اكتشف الممتعضون هنا، أن النسبة الساحقة من الرفض هي نفسها في أكثر من شارع هناك، شيعياً ودرزياً، مهما كانت مواقف المسؤولين وأقوال الاستهلاك السياسي والإعلامي. ولم تلبث المعارضة المسيحية لدستور الطائف أن لبست لبوس الواقعية الدستورية والالتزام الميثاقي. فبعدما ظهرت ثغر الاتفاق، خصوصاً لجهة عطوبته الداخلية التعطيلية، وهشاشته الخارجية المفتوحة على استباحة السيادة الوطنية، راح المسيحيون المعارضون عبر لقاء قرنة شهوان يكررون رفع الصوت لسدّ تلك الثغر، «من دون المسّ بالشقّ الميثاقي من وثيقة الوفاق الوطني». أما بعد زوال نظام الوصاية، فبدت فجوات الطائف قنابل موقوتة، أو حتى ألغاماً مضادة للدولة والكيان. وهو ما جعل ميشال سليمان يدأب على المطالبة بمعالجتها.

في هذا السياق تُفهم صرخة البطريرك الراعي. لكن توقيتها ـــــ كما تشير قراءات العارفين ـــــ معطوف على عاملين اثنين متقدمين في السياسة، وقد يكونان وازنين في لحظة قريبة.
العامل الأول، يتمثل في كلام هامس في الكواليس الطابخة، عن أن الحكومة الميقاتية الثانية قد أنجزت فعلاً، وأنها قد تخرج الى العلن في وقت وشيك. ويقال في هذا المجال إن الاستحقاقات الأخيرة التي تواجه البلاد، خصوصاً أمنياً ومالياً، فضلاً عن استحقاق الإنهاك، دفعت جميع المعنيين الى الاقتناع بضرورة التأليف. ويحكى أن هذا ما حصل فعلاً بصمت، وعلى السكت، حتى ليقال إن معظم الأقطاب المكونين للأكثرية الجديدة قد أرسلوا أسماء وزرائهم فعلاً الى ميقاتي. والساهرون في تلك الكواليس باتوا يرددون تلك الأسماء كاملة، لا ينقصها غير تلاوة المراسيم. فذاك القطب النيابي قرر إعادة وزير حالي حامت حوله الأقاويل، إضافة الى أستاذ جامعي قريب مغمور. وذلك الحزب الفاعل سمى وزيراً سابقاً وصحافياً قريباً منه. وصولاً الى تبديلات في وزراء قطب «جبلي»، واستمرار القديم على قدمه مع تطعيمات جديدة لدى «التكتل» الأكبر داخل التشكيلة وأكثريتها…

الحكومة إذن جاهزة ووشيكة. بعدها ثمة مرحلة جديدة في السياسة اللبنانية، تقول القراءة نفسها، خصوصاً على وقع التطورات الإقليمية والمواقف الدولية. وهنا يظهر العامل الثاني في تفسير الكلام البطريركي عن تعديل الطائف، إذ يغزر الكلام في الأوساط الدبلوماسية البيروتية، وخصوصاً الفرنسية منها، عن أن حزب الله قد يفاجئ الكثيرين في وقت غير بعيد، بقبوله العودة الى طاولة الحوار. ويضيف القارئون لأجواء باريس، أن هذه العودة قد تتطور تدريجاً وصولاً الى لحظة الحديث ـــــ ولو تلميحاً ـــــ عن تسوية لبنانية كبرى، تجمع بين البحث في مصير السلاح والبحث في تطوير النظام. لا بل إن البعض يشير الى أن الحركة الفرنسية المسجلة أخيراً في بيروت، بين بييتون ورفاران وجوبيه المنتظر، تصب فعلياً في هذا السياق: مقاربة حزب الله في إطار معادلة جديدة: السلاح والنظام.

ولا يستبعد أصحاب تلك القراءة أن تكون بكركي قد باتت في أجوائها، أو استشعرت ملامحها في حركتها الخارجية، أو في حركة الآخرين. وهو ما جعلها تطلق الإنذار المبكر. على طريقة القول للخارج: إذا ما طرحت قضية النظام اللبناني، فنحن عندنا ما نقوله. والقول لأبنائها في الداخل: إذا طرح الموضوع فعلاً، فهل لديكم تصوّر موحّد ترفعونه؟
إنذار لن يطرح على طاولة الأربعين اليوم، لكنه قد يصير أولوية غداً.

السابق
“ميقاتي المفقود”… جائزة لمن يجده!
التالي
اللواء: بري يصعّد بوجه الحريري