ذاكرتي تطالب بأرشيف الكتروني

عندما تتوقف الذاكرة عن عملها، لتعلن إضرابا مفتوحا من دون أي تصريح مسبق، يصبح الموقف حرجاً، وخصوصاً إذا حاولت تذكّر وجه شخص ما أو إسمه. لا تلام ذاكرتي على أفعالها، لأني أعرفها جيدا، وأعرف الأعباء التي تحملها، والعشرات اليومية من الوجوه التي تمر عليها، من الباص إلى سيارة التاكسي إلى العمل حتى الجامعة. كثيرة هي الذكريات التي تُجبر ذاكرتي على استرجاعها، وكثيرة هي المواعيد والأرقام اليومية التي لا تعرف الأوراق، وتسكن بين زواياها، التي إن أردت نقل محفوظاتها، لاحتاجت إلى المئات من الملفات المكومة كملفات دوائرنا الرسمية.

أصبحت خيانتها بالنسبة لي خيانة وطنية، خصوصا أن انقطاعها دقائقَ أو ساعات بدأ يشبه إنقطاع التيار الكهربائي في بلدنا، ليشلّ عملي ويشعرني بغربة عن نفسي وكياني. ولأن مزاجية الحكام في بلدنا تشبه مزاجيتها، فإنها تحرجني أمام الناس وتحديدا مع عبارة: "ما تذكرتيني؟".

هكذا تصبح هويات الناس ضائعة أمامي، كضياع هوياتنا أمام المسؤولين، ويصبح انتمائي إلى هذا الجزء من جسدي شبيها تماما بانتمائي إلى الوطن، أو إلى قطعة منه، تعرف من التهميش الكثير.

لا تلام ذاكرتي على ردة فعلها اللئيمة، لأن عملها لا محدود، ولا عدد لساعات تؤطر دوامها الرسمي. فلا اتفاق عمل بيني وبينها، كمعظم مؤسساتنا. ومع هذا بقيت أكبر من طموحي، وأعظم من تضحيتي، فالنوم عندها قليل.

حتى إن غرقت أنا في سبات طويل، تبقى تراجع عملها، تعيد وتحسب وتنجز وتقوم بكل مهامها، رافضة الراحة، وبالتالي فإن حالة النسيان التي تغرقني بها ليست أسوأ من حالة النسيان التي يعيشها المواطن اللبناني. وصمتها أمام أسئلتي الكثيرة ليس كصمت المواطن الذي تعوّد أن يعيش في حالة تجاهل كبير ونسيان أكبر. والملفت في الموضوع أن التجاهل الموجب من قبل الحكّام لا يبرره لا ساعات عمل، ولا تعب ، ولا سوء تغذية و لا أي من مسببات حالة النسيان التي يقدمها الأطباء.

واذا كان "السترس"، أي التوتر، هو العامل الأقوى لتتنكّر الذاكرة لذاتها، فإن حكامنا لا يعانون من هذه الوضعية، وتحديدا لأن أعمالهم في معظمها تنجز على طاولات الغداء أو العشاء، بحيث لا يشغل بالهم ولا ذاكراتهم لا ارتفاع أسعار البندورة ولا البنزين، ولا غياب ربطة الخبز عن المائدة، ولا حتى الأيام الأخيرة من الشهر.

مطالب ذاكرتي محقّة، وأنا أقدرها، لكن الوصول إلى تحقيقها أصعب من البقاء في حالة نسيان مستمر. فأوقات إجازات ذاكرتي مفاجئة، أفضّل أن تكون خلال رحلتي اليومية إلى بيروت، وتحديدا في زحمات السير على أتوستراد الجنوب، أو على طريق المطار، أو على الكولا، لأن هذه الأوقات تكون أكثر من ميتة عندي، ويكون الإنتظار في طريق طويل لا سبيل للرجوع منه، وتحمّل ضجيج السيارات وزماميرها المزعجة، أصعب من فقدان الذاكرة. لأن حالة الغضب التي تعتريني في هذه الأوقات، التي تزيد عن الساعة في أحيان كثيرة، وتشعرني بقلّة قيمة المواطن في هذا البلد، ونسيان المسؤولين وجوده، وبالتالي فإن المسببات الكبيرة لحالة النسيان التي أعيشها وحالة النسيان التي يعيشها اللبناني مختلفة جدا. فالمسؤولون يطالبون بمزيد من الراحة والإستجمام، وذاكرتي أنا تطالب بأرشيف إلكتروني.

السابق
النهار: نزاع مفتوح على جلسة نيابية بلا نصاب
التالي
البتاء: أجواء مشجِّعة تُحيط بحركة الاتصالات