إرجاع لبنان ستين عاماً إلى الوراء مجدٌ لم تنجزه “ثورة الأرز”!

يمكن، بملاحظتين، دفع الرأي القائل بأنّ "ثورة الأرز" أرجعت البلد ستين عاماًَ إلى الوراء.

الملاحظة الأولى يفترض أن تكون "بديهية". فلبنان ما قبل "ثورة الأرز" كان الحالة النافرة الوحيدة في النظام الإقليميّ لبلد يُصادَر قراره من نظام قائم في البلد المجاور له، ومن خلال وجود عسكريّ وأمنيّ طالَ ثلاثين عاماً. ولولا انتفاضة الاستقلال وشهداؤها الميامين لمّا تحقّق الجلاء، والطاعن بالجلاء اليوم كالطاعن بالوطن، خصوصاً أنّه وبصرف النظر عن انقسام البيئات الأهلية اللبنانية بين تلك المنضوية في "ثورة الأرز" وبين تلك المنضوية في "الثورة المضادّة للأرز" إلا أنّ ما من بيئة أهلية لبنانية كبرت أم صغرت مستعدة للعودة بعقارب الساعة إلى ما قبل نيسان 2005.

أمّا الملاحظة الثانية فـ"نوستالجية". إنّ إرجاع لبنان ستّين عاماً إلى الوراء يعني إرجاعه إلى زمن جميل، وهذا مجد لم تستطع ثورة الأرز أن تحقّقه للأسف. من لا يذكر بيان مجلس المطارنة الموارنة قبل سنوات الذي ترحّم على أيّام الكتلتين الوطنيّة والدستوريّة؟ كانت الديموقراطية البرلمانية اللبنانية واعدة قبل ستّين عاماً، تعاند ببسالة حيناً، وبهشاشة حيناً آخر، التقهقر المتسارع للمنطقة نحو أنظمة عسكرية إستبدادية ونحو التبديد الأيديولوجيّ للأجيال والطاقات والثروات. وكانت الديموقراطية البرلمانية السورية تحاول أن تصمد هي الأخرى بجانبها، وكانت لا تزال تمتلك مضادات حيوية بوجه الإنقلابات العسكرية المتتالية 1949-1954، قبل أن تعود زاهية واعدة مجدّداً، إنّما لسنوات معدودات سرعان ما جرى تبديدها من خلال كارثة الوحدة الإندماجية ثم كارثة الشمولية الحزبية الأحادية. وقبل ستين عاماً ما كان وارداً أن يتربّع رئيس المجلس النيابي فوق عرشه عقدين كاملين، ويمنّي النفس بعقدين جديدين، في ما يعدّ أكبر طعنة يمكن أن تسدّد لأي نظام ديموقراطيّ برلمانيّ على وجه المعمورة. ومن ينسى أنّه قبل ستيّن عاماً، قامت جبهة وطنية عريضة ضدّ التجديد للشيخ بشارة الخوري وحالت دون إكماله لولايته الإضافية.

وقبل ستّين عاماً، ما كان أحد ليتوقّع أن تخضع نصف مساحة لبنان لميليشيات ظلامية تتبع لنظام ثيوقراطيّ شرقيّ تفصلنا عنه آلاف الكيلومترات. كانت هناك هيمنة لطائفة على بقية الطوائف هذا صحيح، إلا أنّ هذه الهيمنة كانت تسوّغ لنفسها بأنّها طليعية في جعل الإنتماء للكيان اللبنانيّ فوق كل إنتماء، وبأنّها الأكثر قدرة على ربط المجتمع اللبنانيّ بمقدّمات الحداثة السياسيّة وبالعالم الحرّ.

قبل ستّين عاماً كان التطبيق العمليّ للميثاق الوطنيّ الإسلاميّ – المسيحيّ يمرّ باختبارات صعبة وبعضها عسير، إلا أنّه ما كان هناك مجال على الأرض اللبنانيّة لنافثي السمّ هؤلاء الذين يحاربون الكيانية اللبنانية اليوم بمزيج من "المارونوفوبيا" و"اللاسنّية" (على وزن اللاسامية).

فـ"المارونوفوبيا" تعني العداء لتاريخ الجبل اللبنانيّ ولتاريخ تميّز الجماعة المارونية فيه، وتاريخ افتراقها عن سائر الجماعات المسيحية في الشرق. فهذه الجماعات انقطعت عن "العالم المسيحيّ" إرادياً أو قسرياً، لكنها لم تتصالح مع التاريخ " الما بعد مسيحيّ" للمنطقة، أمّا الجماعة المارونية فأصرّت على الإنتساب العضويّ للعالم المسيحيّ من جهة، وكانت الأقدر على التصالح مع التاريخ " الما بعد مسيحيّ" للمنطقة، لأنّها تشكّلت أساساً في هذا التاريخ "الما بعد مسيحيّ"، ومن هنا كانت طليعيّتها في مسيرة النهضة العربية الحديثة.

وأخطر أنواع "المارونوفوبيا" اليوم هي تلك "المارونوفوبيا الذاتية" التي تحاول نسف هذا الوعي التاريخيّ للجماعة، بتحويلها إلى واحدة من الجماعات الذمّية التي تخاف على نفسها من الإنقراض، والتي تعالج الخوف من الإنقراض بمزيد من الإنقطاع عن العالم المسيحيّ وعن الغرب من جهة، وبمزيد من التعامل مع الذات كـ"جالية أجنبية" لا همّ لها إلا أن تشرب وتأكل وتنام ولو كان ذلك في أحضان سلاح أيديولوجيّ يتبع نظاماً ثيوقراطياً شرقياً.

أمّا "اللاسنّية" فهي صنو "المارونوفوبيا" من جهة، وهي شكل من أشكال "الإسلاموفوبيا"، وهذه دعوة عنصرية ما كنا لننتظر تسريبات "ويكيليكس" للكشف عنها وعن خطورتها. لهذه الدعوة تخريجتان، الأولى، تتدثّر بملفوظ "تحالف الأقليات" ومفادها أنّ المسلمين السنّة سلفيون وجهاديون بالفطرة، وليسوا أهل وسطية واعتدال، وبالتالي لا بدّ من الإستعانة في وجههم بأنوار ولاية الفقيه والحرس الثوريّ الإيرانيّ وامتداداته. أمّا التخريجة الثانية فهي تشبه النقد الفاشيستي واللاساميّ للرأسماليّة. فكما أنّ هذه الرأسمالية يديرها "اليهود" بموجب هذا النقد الفاشيستيّ، فإنّ الرأسمالية اللبنانية يديرها "السنّة"، ولأجل ذلك نجد فاشيستيي هذا الزمن الرديء في غيّهم وتخرّصاتهم ضدّ ما يسمّونه "السياسات المتبعة من 1992 إلى اليوم"، متناسين أنّ رئيساً للمجلس باق في مكانه منذ 1992 إلى اليوم، وأنّ إعادة إنتشار كانت مطلوبة عام 1992 وحال تأخّرها 14 عاماً دون التطبيق الصحيح لإتفاق الطائف بالشكل الذي كان سيمكننا فعلاً من الإنهاء الحقيقيّ للحرب الأهلية.

قبل ستّين عاماً، كان لبنان أجمل لأنّ الميثاقية الممتدة من ميشال شيحا حتى الزعامة الأسعدية كانت أقوى بكثير من أن تواجهها نزعات "المارونوفوبيا" و"اللاسنّية" ويضاف إليهما مشروع الحجر الأيديولوجيّ لنظام الملالي الإيرانيّ على مصائر التشيّع اللبنانيّ. وهنا لا بد من الاستطراد: كانت الزعامة الأسعدية أكثر تقدمية مليون مرة من المتربع لعقدين على رئاسة المجلس.

لأجل ذلك، واليوم بالذات، عندما يشنّع البعض على "ثورة الأرز"، فمن الضرورة إعادة التنبه على ان ضخّ الروح لهذه الثورة هو رهن بالجرأة في ثلاثة ميادين، ضدّ المارونوفوبيا، ضدّ اللاسنّية، وضدّ التشويه الباسدرانيّ للتشيّع اللبنانيّ. وطبعاً، من أجل الترحّم على لبنان كما كان قبل ستين عاماً، لبنان الممتد من ميشال شيحا حتى كامل بك الأسعد.

السابق
الربيع العربي: الدور على أوروبا
التالي
ما العمل في بلد لا متماسك ولا ممسوك؟