وأخيرا تصالحت أختي مع التاريخ

تذكرت إشراقة ذاك اليوم. كانت مختلفة. نورها يشقّ عبق الصباح الندي. أذكر فجره أيضا. وقفت على شرفة غرفتي، كانت قلعة شقيف أرنون تتطاير حقدا. لم يتركوا أحجارها تصمد بهدوء، زرعوا أحقادهم قبل أن يغادروا، وفجروها، فكانت كتلة نور ونار.

الأحداث مرت متسارعة في يومين، أذكر آثار الشظايا التي حطت قذائفها قرب منزل أهلي، كانت تتساقط على الجدران والأبواب. مع كل الضجيج لم أشعر بالخوف، الاّ أني لم أستوعب ما يحصل، كنت صغيرة حينها. كل ما أذكره، زاويتي التي أقطن، أجمع قدميّ ورأسي في الوسط، وأرصد الأصوات وأسمع، ظننت أنها ككل المرات، التي تستدعي نزولنا إلى الملجأ، ولم أعلم أنّها الولادة العسيرة لفجر التحرير، الذي شق ولادته الطبيعية، بعد مسيرة جهاد وصمود طويلة، عشنا لحظاتها وعرفنا معانيها.

اليوم ما زالت الصور تحضر أمامي بوضوح، مع أني على خلاف مع ذاكرتي، الا أنها تبقى وفية لهذه اللحظات، التي لم تغب ولن تغيب عن أي جنوبي أو بقاعي. عندما نهضت في الصباح وسمعت الزغاريد والتكبيرات، سألت عن ما يحصل، فكان التحرير.

لم أشهد هذه الحركة النشيطة في المنزل سابقا، وأنا بهدوئي أبحث عن سرّ هذا اللغز غير المعهود، والفرحة التي لم تفسر. والدي صار في قلعة الشقيف، لم تكن نيرانها قد بردت، صعدوا إليها ولم يلتفتوا إلى إي من المخاطر الممكنة. كانت الحركات والشاشات كلها فرحة، اغاني المقاومة والصمود تعالت، فرغت الأحياء والزواريب، وكانت السيارات مواكب تتزاحم للوصول إلى الشريط الحدودي.

معتقل الخيام قصة أخرى، لم أعرفها إلا من بعض السنوات، حين ذهبت إلى المعتقل وأنا أدقق جدرانه وتفاصيل زنزانته، يا الله كيف يمكن أن أصمد في زنزانة مماثلة. إنهم أبطال، والكلمة صغيرة أمام جهادهم.

في عالام ألفين وبعد التحرير، كان يشغل بال أختي الأصغر مني بسنتين، ماذا ستقول لمعلمة التاريخ. فالإسرائيليون وعملاء لحد، كما قال والدي، فروا مزعورين، بعد يوم التحرير لن تجد أختي حجة لعدم حفظها التاريخ، فلا مزيد من القصف، ولا مزيد من الإستيقاظ الليلي المفاجئ للنزول إلى الملجأ.

حتى الآن كلما مررت بالقرب من بركة أرنون ، متوجهة إلي يحمر الشقيف، ضيعة أمي، أتذكر ذاك الأسرائيلي والفتاة المتمردة، بجديلتها وسطوة صوتها، التي رفضت ترك اخيها عند حاجز الإسرائيلين. لم أنس الساعات الطوال، التي انتظرناها في السيارة، حتى يفك الحاجز قيده وندخل إلى يحمر سالمين. لم أنس، وأنا في سنتي الثامنة، كيف يخيم الصمت ولا يمكن الهمس، حتى للأطفال.

ذكريات تعود بكل تفاصيلها، تتسارع وتتضارب، بين ركضي السريع وتعثري عشرات المرات، وأنا أعود من المدرسة، وأسمع صوت الطيران الحربي المفاجئ. المدرسة بعيدة قليلا، كنت أقصدها مشيا، ولكني لم أسلم في كل مرة من جروح الخوف الداخلي وجروحي قدميّ، لشدة سرعتي سعيا للوصول إلى المنزل، قبل غارة مفاجئة.

تذكرت وجه معلمة اللغة الفرنسية عند اختبائها تحت الطاولة بعد قصف موقع الطهرى. تذكرت وتذكرت، ومن المؤكد أني لن أنسى، ويوم التحرير عندي، له معنى آخر، اليوم أعود متأخرة إلى المنزل، أمرّ على طريق عين السماحية (زوطر الشرقية – النبطية الفوقا)، وأنا أتحدى ذاك الجبان الفار.

أيها المقاوم، علمتنا معنى الكرامة، أن أسير على أرضي، وكل خطوة تلتصق بالتراب، وتعرف أن حقي لا يمكن أن أتنازل عنه!

السابق
سعادة: نرفض عقد جلسة لنقل صلاحيات الحكومة للمجلس
التالي
يوسف: باسيل هو من رخص للشبكة الخلوية الثالثة