يـوم تـمّ إعـدام الـدولـة

قبل أربعة أيام، وفي مبنى وزارة الاتصالات، وفي نقل مباشر بالصورة الملونة والصوت الحي، تمّ تنفيذ حكم الإعدام بالدولة اللبنانية، بواسطة سلاح قانوني وبتغطية من واحدة من الشرعيات المعترف بها دولياً!
لم تستغرق العملية الفريدة في بابها، والتي دارت على أرض أرقى ما توصل إليه العقل البشري من وسائط الاتصال، إلا دقائق معدودة… لكن حصادها كان وفيراً جداً: سقطت الرئاسات جميعاً، الأولى المكلفة بحراسة الدستور، والثانية المكلفة بابتداع المخارج لتعديل الدستور، حين تدعو الحاجة، والثالثة المنصرفة دون أن تنصرف والمكلفة بتصريف الأعمال التي لا تجد من يصرفها.

بديهي، والحال هذه، أن يصيب الرصاص الطائش الوزارات جميعاً، والمؤسسات الرسمية كافة، وأن يتصرف الإداريون والموظفون بعدها وفق انتماءاتهم الطائفية والمذهبية، ومدى ملاءمة مواقع الوزارات والإدارات مع هواهم ومصادر اطمئنانهم.
ها نحن نحيي الذكرى الحادية عشرة لتحرير الأرض التي كان يحتلها العدو الإسرائيلي، وقد تحرّرنا من الدولة، بقليل من الفرح وكثير من القلق. ذلك أن مسؤولينا الكبار مشغولون بمحاولة إنجاز معجزة تشكيل الحكومة التي يتبدى وكأن تشكيلها من المستحيلات، فأين لهم بالوقت لمتابعة الهجوم الضاري الذي شنه رئيس الولايات المتحدة الأميركية، الأسمر وذو الجذور الإسلامية (؟) باراك أوباما على المقاومة في لبنان، وتضمن اتهامات فظيعة لأهلها بارتكاب اغتيالات والتورط في جنايات وجرائم تهدد الأمن الدولي، مع التلويح باستخدام المحكمة الدولية (إياها) لمحاسبتها. وكان التوقيت مدروساً وفضاحاً في الوقت ذاته: عشية وصول رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى واشنطن حيث استقبل كملك الملوك وتمّ وداعه باعتباره إمبراطور الأباطرة، وليس أوباما أكثر من مدير ناحية في خدمة إسرائيل دولة يهود العالم الديموقراطية.

ما علينا والمسائل الدولية المعقدة، لنعد إلى همومنا اليومية البسيطة:
سقطت الدولة، إذن، بالضربة الرسمية القاضية… وسيتوزعها القادرون على أخذها، وليس بقوة السلاح وحده، بل بأسلحة أعظم فتكاً من بينها الطائفية والمذهبية… أليست المناصب والمواقع محاصصة في هذه الدولة التي طالما سقطت وبقي النظام، ثم أعيد استيلادها وقد تزايدت فيها الإشكالات ولاّدة الحساسيات، في انتظار تفجرات جديدة تستدعي وسطاء، بينهم الدولي، وبينهم العربي، وابتداع صيغ جديدة وتفاهمات ملفقة، تارة لانتخاب رئيس من فوق الدستور، وطوراً لاستيلاد حكومة قيصرياً وعلى يد قابلة قطرية، ودائماً تحت المظلة الأميركية المموّهة ببعض النكهة الفرنسية وببعض أسباب الدعم المشروط من دول نفطية لا تدفع إلا بقدر ما تُعطى من أسباب النفوذ.

نعم، لقد سقطت الدولة رمياً برصاص تنازع السلطات بين أهل السلطة الشرعية ذاتها: تمرد ضابط على وزير، فاستقال من يفترض أنه رئيس رئيس الضباط، لأنه لم يجد الحماية من رئيس الرؤساء الذي ـ بدلاً من أن يأمر انطلق يستشير مرؤوسيه، فنصحوه بأن أفضل المواقف هو اللاموقف وترك الأمور تحل نفسها بنفسها «فلا حل جذرياً لأي مشكلة في لبنان. وحده الزمن يحل الإشكالات والمشكلات والتشكيلات جميعاً».

على هذه المساحة الضيقة من الأرض العربية الشاسعة، وفوق شريط يمتد لمئتي كيلومتر تقريباً على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، تتعايش، محتربة على الدوام، مجموعة من «الأمم» غير المتحدة، تتبادل الكراهية والأحقاد، تتمنى كل منها لو أنها تتمكن من طرد الآخرين أو إبادتهم إذا ما عاندوا في التحوّل إلى خدم وحشم لها.
في العشرة آلاف كلم2، يتساكن في قلب البغضاء، حوالى أربعة ملايين من الرعايا متعددي الجنسية، متناقضي الولاءات والمختلفين حول كل ما هو في العالم بديهيات: الوطن، الدولة، الشعب… وإن تلاقوا مرغمين في حضن «النظام» الذي استولد قبل «الدولة»، والذي لا صلة نسب له مع المنسبين إليه بقوة الأمر الواقع، فلأجل معلوم يعودون بعده إلى العراك باعتباره حرفتهم المميزة وليس مجرد هواية مؤقتة.

كل من وما في لبنان مختلف عما هو محدد ومتفق عليه، بداهة، في مختلف أنحاء العالم: لا الدولة دولة الجميع، ولا الشعب هو واحد دائماً، ولا العدو الوطني والقومي هو العدو» في عيون الجميع، ولا الأخ الشقيق هو هو الأخ الشقيق في عواطف الجميع ومواقفهم، فصلات الرحم تحددها الثروات وليس روابط القربى، والمصالح لا المبادئ… من هنا يصير الأغنى «قريباً على بُعده»، والأفقر بعيداً على قربه.

النظام جمهوري، برلماني، ديموقراطي، من حيث المبدأ. ولكن لا مبدأ في السياسة الواقعية. والديموقراطية، هنا، توافقية، بمعنى أنها لا بد أن تعبر مضيق الطوائف فتفقد لونها الأصلي وتخرج إلى الناس مزركشة بأعلام العصبيات المذهبية.
عدد السكان تقديري، ونسب التوزع بين الأديان والطوائف والمذاهب محكومة بالصيغة، والصيغة تتناقض مع قسمة الناس أكثرية وأقليات.

الانتخابات مهزلة. لكل دورة قانون. وليس التقدم شرطاً للديموقراطية بل ربما كان قانون الستين أكثر ملاءمة للتعايش من هذه المطالبات المراهقة بضرورة منح الشبان فرصة للاقتراع، الذي قد يشكل انقلاباً بأصوات المراهقين المتعلقين بالمثل العليا والمندفعين إلى تقليد أقرانهم في دول أخرى تعتمد نظام «صوت واحد لمواطن واحد» بينما في بلاد «ثورة الأرز» قد يكون للفرد الواحد من الرعية أصوات عدة.
ثم مَن قال إن المال عنصر إفساد للديموقراطية؟! أليست الولايات المتحدة الأميركية أمّ الديموقراطيات في العالم؟ أليس فيها أيضاً تنفق المليارات من الدولارات على انتخاب البرلمان ومجلس الشيوخ، وصولاً إلى الرئاسة. هل من الضروري أن تسمى «الرشوة» تبرعاً حتى تصبح الانتخابات ديموقراطية؟!

على أن الواجب الوطني يقضي بأن نحافظ على وجوه الفرادة التي تميزنا عن غيرنا من الأخوة العرب، بداية، وسائر شعوب العالم بالإطلاق:
ـ وحدنا من دون الخلق يجتمع العالم كله فينتخب معنا، أو بالنيابة عنا، رئيس الدولة. ولا يهم أن تكون الضحية الدستور والمؤسسات والديموقراطية.
ـ وحدنا من دون الخلق يجتمع بعض العالم ومعظم العرب «ليساعدنا» على تشكيل الحكومة، أية حكومة… وها نحن ننتظر منذ أربعة شهور ونيف أن يهبّوا لمساعدتنا فيعتذروا باهتمامات أخرى تتقدم على هواياتنا.
ـ وحدنا من دون الخلق يمكن أن نعيش بلا دولة لسنوات، واعتمادنا على نبوغنا في التسيير الذاتي والمراسيم الجوالة والابتكار الفقهي كمثل فتوى التمديد لحاكم المصرف المركزي برغم أننا بلا حكومة يفترض أن لها القرار.
إن غيرنا من الشعوب العربية قد احتاج أن ينزل إلى «الميدان» لإسقاط نظام فاسد بالثورة… لكن نظامنا الفريد في بابه قد احتل برموزه الطائفية الميادين جميعاً فنجح في إسقاط الدولة، ومعها ـ بل ربما قبلها بزمن طويل: الشعب!
وماذا يهم أن يضرب الجوع البلاد، وأن تتلاشى تدريجياً الطبقة الوسطى، وأن يهجر الفلاحون الأرض ليأتوا فيتكدسوا في ضواحي الفقر في انتظار أية وظيفة في أي مكان في العالم ما بين أفريقيا والقارة الأميركية أو السويد على كتف المحيط المتجمد الشمالي.

لبنان بلا دولة..
هذا ليس بخبر. الخبر أن تكون له دولة بحكومة ومجلس نواب وإدارة وشعب. وطالما أن اللبنانيين رعايا طوائف وزعامات الطوائف فلا دولة في الأفق ولا حلول.

السابق
“ديناميكية” الشباب و”بيروقراطية” الحكومات
التالي
الديار: حادث مبنى الاتصالات يتفاعل والمواجهة في المجلس النيابي اليوم