المبدئيّة والأولويّة

جاءت مواقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر اللّه من أحداث سوريا غير مفاجئة لناحية مضمونها، ولناحية سياقها أيضاً. وربما كان الأبرز في اعتراضات كثيرين، ولا سيما المعارضين السوريين من الذين يناصرون المقاومة ويرون في السيد نصر اللّه رمزاً كبيراً للحرية، هو إغفاله الإشارة الى الذين سقطوا في سوريا من المواطنين، وإن كان بعضهم ذهب الى حدود انتقاد عدم إعلانه دعم الانتفاضة السورية ومطالب الشعب هناك.

لكن ثمّة فئة أخرى من المعارضين للنظام في سوريا، معارضة أصلاً لحزب الله وللمقاومة أيضاً، ومنهم من يقدر على التحدّث أياماً طويلة عن ضرورة مقاومة الاحتلال، وعن أهمية استعادة الجولان، لكنه غير مستعد للقيام بخطوة عملية في هذا الاتجاه، ويتذرع بأنّ السلطات تمنعه من ذلك، علماً أنه يُفترض به، هو الذي يتظاهر اليوم ويتحدّى النظام وأجهزته المدنية والعسكرية، أن يعطي إشارة الى أنه مستعدّ للتضحية في سبيل الحرية. وهو، إن كان لا يأبه بموقف النظام، فإنّه في المسألة الوطنية المتصلة بمعركة تحرير الجولان، يكتفي بالقول إنّ النظام في سوريا لا يطلق رصاصة على الاحتلال هناك.

هذه المجموعة تضمّ فئة من الإسلاميين المتشدّدين من جماعة الإخوان المسلمين وجماعات إسلامية أخرى تتحدث بلغة مذهبية ضد حزب الله. وبعض هؤلاء لجأ في 4 أو 5 تظاهرات في سوريا خلال الشهرين الفائتين، الى حرق أعلام لحزب الله وشتم السيّد نصر اللّه، والادّعاء بأنّ عناصر من الحزب يتولّون عمليات قمع المتظاهرين وقتلهم، وتضمّ هذه الفئة من يصفون أنفسهم بالمثقفين الليبراليين، الذين يريدون الحرية والرخاء لسوريا قبل أي شيء آخر، بما في ذلك تولي معركة الدفاع عن فلسطين. وقسم لا بأس به من هؤلاء كان أداة بيد جماعة 14 آذار عامي 2004 و2005 عندما كانت هناك معركة ضد سوريا وضد وجودها العسكري في لبنان، بينما لم يقل أيّ من هؤلاء كلمة واحدة بحق عنصريّي 14 آذار، الذين رفضوا كل شيء له اسم سوري، سواء كان نظاماً أو جيشاً أو عمالاً أو حتى طلاباً.

المهمّ أن هؤلاء كانوا يريدون الاطمئنان الى أن حزب الله سوف يظل الى جانب النظام في سوريا، وكانوا يأملون لو أن السيد نصر الله تحدث بتفاصيل أكثر دعماً للنظام هناك. فكل ما يريدونه اليوم، هو رفع سقف الحملة على حزب الله وعلى المقاومة، كما يحاولون رفع الكلام التحريضي في الشارع السوري ضد الفلسطينيين، بحجة أن هؤلاء حلفاء للنظام، بسبب ما يقدّمه إليهم من خدمات تؤخذ من موازنة الشعب السوري.

لكن بالعودة الى مضمون خطاب زعيم حزب اللّه، من المفيد تبيان أن الرجل لم يكن بحاجة الى عملية تجميل لخطاب أو موقف، ولم يلجأ الى أي نوع من المناورة في معرض شرحه أسباب موقفه، كما لم يختر طريقاً وعرة لكي يقول ما يريد قوله. ولأن الموقف مهم في كل جوانبه لكونه يصدر عن أبرز قادة المقاومة العربية في وجه الاحتلالين الأميركي والإسرائيلي، فإن محاولة فهمه على ما هو، تبقى أسهل من محاولة تأويله يميناً ويساراً.

فحزب الله لم يدّعِ يوماً أنّ لديه أولوية ثانية تتقدم على أولوية التحرير، وهو بعد نجاحه في إفشال عدوان تموز عام 2006 ثبّت هذه الأولوية، وانتقل الى أداء دور أكبر على صعيد المنطقة، وتعرّض ولا يزال لأشكال مختلفة من التآمر بغية النيل من مقاومته قبل أي شيء آخر، ومن معنى أن تكون المقاومة أولوية، لكن ذلك لم يُعفِ حزب الله من التوجه الى الداخل، عندما شعر بأن هناك من يريد الانقلاب على مقاومته من ذلك الداخل. وهو اضطر ـــــ نعم اضطر ـــــ إلى أن يؤدّي دوراً واسعاً وتفصيلياً في لبنان لم يكن معدّاً له أصلاً، وربما كانت هناك حاجة في يوم ما، إلى نقاش نقدي بشأن كل سلوك الحزب إزاء المسألة الداخلية، لكن ما لا يريد كثيرون فهمه، هو أن المقاومة، وهي تتصرف مضطرة في الشأن الداخلي، إنما تعالج الأمر من زاوية صلة هذا الشأن الداخلي بالمقاومة، أي إن أولوية المقاومة لم تتراجع قط، وما حصل هو تقدم ملفات الى الواجهة، لكن في سياق متصل تماماً بالمقاومة. وهذا يعني أن عملية تشخيص المشكلات الداخلية، لا تقوم عند حزب الله من منطلق الحسابات التقليدية الداخلية، دون إغفال وجود فريق داخل الحزب أو على هامشه، لا يهمه من الأمر الداخلي أكثر مما يهم المجموعات السياسية الأخرى.

في عام 1996، كانت المقاومة خارجة من انتصار كبير على إسرائيل في ما عُرف بعملية «عناقيد الغضب» وفرض «تفاهم نيسان». قرر الحزب استخدام قوّته في الانتخابات لمواجهة حلف جمع أركاناً في سوريا وأركان النظام الطائفي في لبنان. لم يحتج الحزب يومها الى وقت طويل لاكتشاف الخطأ الذي كاد يعرّض المقاومة لخطر كبير، ثمّ دخل في تفاهم مع خصومه المحليّين. برزت احتجاجات رافضة لموقفه، لكن أفضل من شرح الأمر يومها جوزف سماحة في مقالة كتبها في أيلول 1996 تحت عنوان « تفاهم أيلول لحماية تفاهم نيسان».

اليوم، يخطئ من يعتقد أنّ المقاومة سوف تقدّم أولويّة التغيير ـــــ وخصوصاً في سوريا ـــــ على أولويّة المقاومة التي يدعمها النظام في سوريا، لكنّ نصر اللّه كان صريحاً عندما قال ما معناه: إذا قرّرت غالبية الشعب السوري التغيير، فهذا حقّها.

السابق
الجمهورية: الجنوب يهتز على وقع الضغوط الدولية
التالي
ريفي: هناك من يصر على الإساءة لمهام قوى الأمن الداخلي ودورها الوطني