القنابل العنقودية في النبطية

يروي رعاة الماشية في مناطق النبطية أقاصيص وحكايات أشبه ما تكون بالأساطير، عن خروجهم اليومي المحفوف بالأخطار إلى البراري والحقول لإطعام قطعانهم وهم يتوقعون الموت مع كل خطوة يخطونها فوق التراب، ولا يعرفون إذا كان من يخرج منهم سوف يعود، وإن عاد كيف ستكون عودته. فالسارح بقطعانه في تلك الحقول مفقود والخارج منها مولود.

يقول الرعاة إن معاركهم مع الموت المتربص بهم في حقول ووديان المنطقة بدأت بعد أن وضعت حرب تموز 2006 أوزارها. يومها عادوا ليجدوا أن الدروب التي كانوا يسيرون عليها، والبرية التي تعتبر مصدر رزقهم الوحيد، مزروعة بملايين القنابل العنقودية. ورغم مرور نحو خمس سنوات على حرب تموز، ما زالوا يعثرون ويتعثرون بالمزيد من تلك القنابل، حتى في الأراضي التي أعلنت نظيفة. وفي حين يسرح الرعيان بقطعانهم في أي بقعة من بقاع العالم دون شعور بالقلق أو الخوف على الحياة، يعيش رعيان الجنوب تحت وطأة التهديد الدائم بفقدان الحياة كما حصل للراعي موسى جعفر، أو الإصابة بإعاقة إلى ما تبقى من العمر، وفي أحسن الأحوال نفوق أعداد من قطعانهم.

ورغم أن التجول في براري منطقة النبطية بسبب انتشار القنابل العنقودية قد يكلف "حياة" بكل بساطة، إلا أن هجرة مهنة الرعي بالنسبة إلى هؤلاء الرعيان أمر غير وارد بالحسبان. خضر قميحة راع من بلدة كفرصير، كاد أن يفقد يديه الاثنتين في انفجار قنبلة عنقودية. ما زال يذكر ذلك اليوم جيدا. حينها خرج كعادته يهش على غنمه صباحا في الوادي المحاذي لنهر الليطاني. تفرق القطيع سعيا وراء طعامه. وسرعان ما سمع دوي انفجار رهيب، فأصيب بحروق ما زالت آثارها ظاهرة على يديه ومؤخرة رأسه ونفق أكثر من نصف قطيعه. لكن ذلك لم يدفعه للعزوف عن مهنته.

لا شك أن رعاة الماشية في منطقة النبطية يحلمون بمراع دون خطر. وبما أنه لا وجود لأماكن رعي بديلة، تراهم متورطين رغما عنهم في صراع انتحاري مع الموت من أجل الحياة، ومتمسكين بنمط معيشة محفور في ذاكرة المنطقة منذ آلاف السنين. كما لا يمكنهم ترك مهنتهم ومصدر دخلهم الوحيد، والتي توارثوها عن أجدادهم. محمد ناصر. راع آخر من بلدة ميفذون. يتحدث عن رؤيته اليومية لمئات القنابل أثناء خروجه إلى البرية وقد وجد لنفسه حلولا خاصة للتعامل معها. يرصدها من بعيد ويضع حولها إشارات تحذيرية، بعض الحجارة الضخمة والاطر المطاطية، لينبه زملاءه إلى وجودها.

أما علي قدوح، الراعي الثمانيني من النبطية فيقول إنه لا يهاب الموت أبدا ولا يرهبه وجود القنابل العنقودية في المراعي. ويمشي في البرية متوكلا على الله وحاسة سادسة ولدها في داخله الإحساس بدنو الخطر. وهو كغيره من زملاء المهنة، يتجولون في برية يتنفس فيها وحش القنابل، وحقول تحولت مقابر شاسعة يقطعونها مشيا على القلوب لا على الأقدام، ويقابلون الموت بمثل البساطة التي يواصلون بها الحياة، ولا يطمعون بأكثر من كفاف يومهم.

كما يقوم بعضهم بتزويد مراكز الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة بمعلومات عن أماكن وجودها، ويسترجعون ذكريات كانوا يستمتعون بها بأيام الرعي الآمن حين كانت القطعان تعود إلى الزرائب متخمة بالخير والحليب الطازج الذي جعلهم يوما أغنياء، بينما صاروا يحلمون الآن بمجرد العودة سالمين، راضين بكسب بسيط.

فرق دولية كثيرة تعمل في الجنوب منذ العام 2000 على نزع الألغام والقنابل العنقودية، منها ما أنهى عمله بسبب نقص التمويل أو انتهائه، ومنها ما زال مستمرا بالتنسيق مع مركز الجيش اللبناني للأعمال المتعلقة بنزع الألغام وقد حددوا جميعا العام 2015 موعدا لتسليم مناطق الجنوب خالية من القنابل العنقودية والألغام. وتشير معلومات هذه الفرق الى أن أغلب ضحايا وجرحى هذه الحرب المستترة هم من الرعيان، والتي لم ينج منها أيضا خبراء التفكيك الدوليون والمحليون. كما يتسبب انتشار القنابل العنقودية يوما بعد يوم بأضرار إقتصادية أخرى تتمثل في عدم قدرة مزارعي المنطقة على استثمار مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، فيما محصول الحقول الناجية من خطرها لا يسد وحده حاجة القطعان الجائعة ما جعل الرعاة مضطرين إلى شراء الأعلاف المستوردة الباهظة الثمن.

ورغم الأخطار والشعور الدائم بالموت الداهم، ما زالت الهضاب والوديان التي تشكل خراجات البلدات في منطقة النبطية ترقص على إيقاع رنين الأجراس، وترسم لوحات لحياة ترفض الاعتراف بالموت والقتل المفاجئ وتلوح في امتداداتها ظلال الرعيان والقطعان كعلامة فارقة للدلالة على إرادة الحياة وعزيمة المضي في البحث عن الرزق وان كان تحت وطأة التهديد بفقدان الحياة.

السابق
الغرب يسأل عن الحكومة والجولان
التالي
الحلو: لتطبيق القانون على الجميع